في البدء كان جدار الكهف، وما أن خدشه إنسان العصر الحجري بحربة معدن، بنصل عظم أو حجر، مجترحا إياه بأيّ أداة طبيعية التقطها وشذبها لصالح استعمالاته البدائية، بالفحم وغيره، تحول جدار الكهف – بشتى نقوشه، الخط تلو الخط، العلامة إثر العلامة، الرمز عقب الرمز، والرسم بعد الرسم، إلى كتاب شفرات، مشحونة بيومياته، تؤرخ نمط وجوده، وتدون طرائق صيده، وصراعه مع قوى الطبيعة، وأشكال قنصه الحيوانات الضارية، وأشكال تآلفه مع حيوانات ذات ألفة، كذا معاركه مع أبناء جنسه، ومعتقداته إزاء بيئته بأرضها وسمائها، ولباسه وأكله ومجمل الأشياء المبتكرة وفق أسلوب عيشه.
كل هذه الخرائط المرسومة علامات على جدار الكهف ليست اعتباطية. إنها طريقة تعبير أولية ما قبل اللغة، دوّن فيها إنسان العصر الحجري أسلوب حياته، وهي بمثابة بيان وجود مشفر، منقوش لتخليد أثره، في معركة البقاء والفناء، وهي في المضمر رسالة للمستقبل، لمن سيأتي بعده، من بني جنسه، ليقف على موروث من سبقه، وعلى هذا النحو تترى الحقب تلو الأخرى، وبالتراكم تتولد طفرات التاريخ.
مسكن مزدوج
جدار الكهف وخرائط علاماته ليس أيضا محض كتابة أو رسما يخلد نمط وجود وحسب، بل هو في الآن ذاته يخلد نمطا فنيا. جدار الكهف وشفراته عمل جمالي مدهش بالرغم من احتكامه إلى الضرورة، وقيمته الفنية كامنة في طرائق رسمه وكتابته، في طرائق صوغه وتخطيطه، في طرائق تعبيره بالشكل والصورة والخطوط والرموز.