في الرابع والعشرين من أغسطس/آب الماضي، هبطت طائرة خاصة في مطار فرنسي، وعلى متنها رجل في أواخر الثلاثينات من عمره، تقدر ثروته، وفقًا لمجلة "فوربس"، بنحو 15.5 مليار دولار (11.7 مليار جنيه إسترليني). وألقت الشرطة الفرنسية القبض عليه على الفور. وفي أعقاب الاعتقال، شهدت قيمة عملة تونكوين المشفرة التي ابتكرها انخفاضا بنسبة تزيد على 15 في المئة.
وتحدث الرئيس إيمانويل ماكرون عن الحادث، فقال إن فرنسا "ملتزمة بشدة بحرية التعبير"، ولكنها في الوقت نفسه بلد يحكمه القانون، وبالتالي "يجب أن تعمل الحريات في إطار قانوني، سواء على الإنترنت أو في الحياة الواقعية". ومع ذلك، فإن التداعيات امتدت إلى ما هو أبعد من عالم العملات المشفرة. فقد اشتبهت السلطات في تورط الرجل على متن الطائرة بشكل غير مباشر في جرائم مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال والإرهاب وغسيل الأموال. فلماذا إذن هذه النبرة الدفاعية في لهجة ماكرون؟
لقد تبين أن ماكرون كان قد عزز في السابق علاقة أكثر دفئا مع رجل الأعمال الروسي الذي هبط للتو في مطار بورجيه، بل وبلغ ذلك في بعض الأوقات، أنه كان على استعداد لتقديم جواز سفر فرنسي لرجل الأعمال الروسي. لم يكن الرجل المعني سوى بافيل دوروف، مؤسس "تلغرام"، الذي أثار اعتقاله غضبا بين كثرة من الناس بينهم المبلغ الأميركي المنفي إدوارد سنودن، الذي كتب: "إن اعتقال دوروف هو اعتداء على حقوق الإنسان الأساسية في التعبير والتجمع. لقد صدمت وحزنت لأن [الرئيس الفرنسي] إيمانويل ماكرون لجأ إلى أخذ الرهائن في محاولة للوصول إلى اتصالات خاصة. وهذا لا يقلل من شأن فرنسا فحسب، بل والعالم أيضا".
منذ أن أصبح سنودن مواطناً روسياً في عام 2022، تحول إلى واحد من أشد المنتقدين لماكرون متهما إياه بالوصول إلى اتصالات "تلغرام" الخاصة، والتي شارك في الكثير منها مواطنون روس- بعضهم ربما مرتبط بالصراع الدائر في أوكرانيا.
لم يكن اسم بافيل دوروف، عندما اعتقل، معروفا خارج الاتحاد السوفياتي السابق على نطاق واسع، ولكن منصة الرسائل التي أسسها (تلغرام) اكتسبت شهرة أوسع عندما استخدمها يفغيني بريغوجين للتخطيط لانقلابه الفاشل. ولاحقا، غدت شائعة أكثر بين مثيري الشغب في المملكة المتحدة، وقد استخدموها لتنظيم هجماتهم على الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء. ومع ذلك، ظل "تلغرام" تطبيقا غير مألوف إلى حد كبير في الغرب، وبخاصة إذا قارناه مع استحواذ إيلون ماسك على "تويتر" الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق. ولكن، مع وجود أكثر من مليار مستخدم اليوم، بات "تلغرام" الآن قاب قوسين أو أدنى من تجاوز علامة ماسك التجارية الجديدة "X"، ولو كان ذلك صعب التصديق.
وفي عرض مفاجئ للتضامن بين مليارديرات التكنولوجيا، أدان ماسك اعتقال دوروف، حتى إنه أطلق هاشتاغ "حرروا بافيل" لدعمه، كما لو كان يريد أن يبرهن أن ثمة ميثاق شرف بينهم. ولم يتوان صاحب "إكس" عن إضافة اسم دوروف بين من يتعرضون لقمع حرية التعبير.
ومثل ماسك، يصنف دوروف نفسه بين دعاة الليبرالية المطلقة ويشارك وادي السليكون في هوسه بحرية التعبير غير المقيدة. ولكن حقيقة أن هذا المفهوم غالبا ما يؤدي إلى مشاكل يمكن التنبؤ بها ببساطة، تكشف عن سذاجة أباطرة التكنولوجيا هؤلاء.
ومسألة ما إذا كانت هذه الحالة حالة من الجهل المتعمد أم انفصالا حقيقيا عن الواقع، مسألة فيها وجهة نظر. إن تخلي ماسك المتكرر عن مبادئه الخاصة، وخاصة عندما يسعى إلى استرضاء المعارضين، يشير إلى أن دفاعه عن حرية التعبير غالبا ما يكون غير صادق. وليس غريبا إذن أن يكون قد امتثل لـ83 في المئة من طلبات الحكومات الاستبدادية بإزالة المحتوى من "X"، لأن ذلك ببساطة أكثر جدوى بالنسبة له من حيث التكلفة. ومن عجيب المفارقات أن يكون ماسك قد طرد من قبل 70 في المئة من الموظفين، بما في ذلك أعضاء الفريق القانوني الذين كانوا مسؤولين عن مقاومة الرقابة والدفاع عن سياسات حرية التعبير للمنصة ضد ضغوط الحكومة.
ولكن بين ماسك ودوروف المزيد من القواسم المشتركة، بخلاف إصرارهما على حرية أن يقول المرء ما يشاء، وهما يتقاسمان ميولا غريبة. وقد يكون من الصعب أن لا يلاحظ المرء ميل دوروف إلى ارتداء اللون الأسود، على سبيل المثال. يرجع هذا الاختيار في الأزياء إلى الممثل كيانو ريفز وزيه الأسود في فيلم "ماتريكس".