طفولة الفلاسفة

طفولة الفلاسفة

تولي الثقافات الغربية اهتماما بطفولة الفلاسفة ونشأتهم، فيبحثون فيها ويحللونها بوصفها مرحلة تأسيسية مؤثرة دفعت بهم إلى ما أصبحوا عليه، ولكن قلّ من يراجع طفولة حكماء العرب وفلاسفتهم، أولئك الذين ينتمون إلى العصور الأولى، فبقدر مراجعة كتبهم وأفكارهم، لا توجد لدينا قصص طفولتهم ونشأتهم التي ساهمت في تشكيل وعيهم، فكيف مثلا كانت طفولة القرطبي ابن رشد يا ترى؟ وطفولة الكندي والفارابي... ولماذا لا نجد أثرا لسيرهم الأولى؟

فإن ذهبنا إلى طفولة سقراط، وعلى الرغم من بُعد المسافة الزمنية بينه وبين من ذكرت من فلاسفة العرب، من المعروف أن والدته القابلة لها التأثير الأكبر على أفكاره ونظرياته في ما بعد، فالمعلومات المتعلقة بحياته الخاصة وطفولته الأولى، تنبئ بنظرياته اللاحقة حول الأفكار والعقول، وتبرز في هذا السياق مقولة له: "اكتسبنا المعرفة قبل ولادتنا لأن أرواحنا خالدة واعتقدنا أننا نسينا".

وإن نظرنا إلى فلسفة الفرنسي رينه ديكارت المنتمي إلى القرن السابع عشر، لوجدنا أنه كان ينحدر من أسرة نبيلة معظم أفرادهامن القُضاة، وفي صغره لم يتوقف عن طرح الأسئلة على الكبار من أفراد أسرته، الذين اعتنوا عناية فائقة بإجاباتهم له، كما رصد الباحثون والنقاد نوعية تلك الأسئلة وقارنوها بأفكاره في ما بعد، وتمحصوا في دراستها نفسيا وعلميا، على الرغم من أن ديكارت صرح بأنه تخلص من طفولته تماما، حين وضع أطروحاته، وكأنه يتعمد تصوير فلسفته كمفهوم مختلف عما تربى عليه من أفكار، ومن أقواله المعروفة: "الطفولة ليست ما يجب أن نعيد اكتشافه، بل ما يجب التخلص منه". وعلى الرغم من ذلك بقيت طفولته بذاكرتها الحية تصارع أطروحاته.

أما زرادشت فكان يبحث عن طفولته المفقودة، فاعتزل عشر سنوات للتأمل، حتى عاد إلى الطفولة الفطرية بأسئلته التي تحمل صفاء خالصا

أما زرادشت فكان يبحث عن طفولته المفقودة، فاعتزل عشر سنوات للتأمل، حتى عاد إلى الطفولة الفطرية بأسئلته التي تحمل صفاء خالصا، ويبدأ بتدوين فلسفته،فكان أن أوضح التحول الذي يصيب الإنسان، والربط المنسي بين هذه التحولات، وما يجب على العقل فعله، بعد أن يصبح واعيا، لتتضح اتجاهاته المسؤولة عن طفولة الفرد، ونتيجة هذا كله كتب زرادشت عمله المعنون "التحولات الثلاثة".

الطفولة موضوع حاضر في أوقات مختلفة في حياة الفلاسفة، وطفولة الفلاسفةهي كلمة بسيطة، إلا أن الكلمة لديهم تحمل عالما كاملا من الذكريات والاستعارات والصور والأحاسيس، بحيث يمكننا قياس مدى هذا الفضاء الفكري والفلسفي من خلال الإشارة إلى المفاهيم الأكثر تطرفا للطفولة. وإن خضت الحديث عن أفلاطون ونيتشه، فلن يسع المقال، ولكنني أرغب بالسؤال عن الفيلسوف الشارح القرطبي ابن رشد، فعلى يد من درس الفيزياء والطب والفلك والفلسفة والرياضيات في طفولته يا ترى؟وماذا عن أسئلته الأولى حول الحياة والوجود، وماذا عن والديه؟في المقابل نعلم جميعا أنه كان فقيها وقاضيا مؤثرا في قرطبة، ونعلم أيضا أنه من أسرة قضائية، وحياته كانت مليئة بالأحداث بين قرطبة ومراكش وفاس، ومن المعروف أيضا أنه كان طبيبا للأمراء المؤثرين، كما نعلم أنه كرس حياته كلها لأعمال الفيلسوف اليوناني أرسطو، وأنه بسبب تحيزاته المنطقية وآرائه الفلسفية، هرب إلى مراكش، كما أن سيرة جده القاضي الكبير ابن رشد معروفة بتركه المجلدات العشرة الفقهية، وكيف ترك تأثيره الفقهي على حفيده.

لكن ماذا عن طفولته وتساؤلاته، خاصة أن شروحه لأرسطو استحوذت بقوة على أفكاره وحملت في ما بعد بصمته الشخصية، وبالتحديد عن أصل الكائنات التي كانت تهمه كثيرا، وفقا لما قاله أرسطو: لا شيء يأتي من العدم، وأنه لا توجد صورة ولا مادة، وسوف تكون حركة الحياة أبدية... فما كان لابن رشد أن ينادي بفصل العقل عن الإيمان، للوصول إلى الحقيقة، وبالتالي تمت محاربته.

طفولة الفلاسفة أطروحات بحد ذاتها، لأنها سبب تبلور الفكر وتغيره وتطوره، ومن هنا على البشر العناية بأطفالهم وبأسئلتهم

يبقى ابن رشد مذكورا، بقصصه الواقعية، إلا أن الفيلسوف الكندي لم يعد يذكر كثيرا على الرغم من أطروحاته حول الماورائيات، واختلافه في مسألة أصل العالم، ودعوته إلى الخلق من عدم، كما يؤكد الكندي أهمية العقل ويقارنه بالمادة، ويناقش الحقيقة الواحدة... وهذا يدعو إلى البحث عن طفولة الكندي العبقرية، ولكننا لا نجد سوى عن نشأته العامة بوصفه كان ابن والي الكوفة وهو من شيوخ عشيرة كندة العربية.

وأخيرا طفولة الفلاسفة أطروحات بحد ذاتها، لأنها سبب تبلور الفكر وتغيره وتطوره، ومن هنا على البشر العناية بأطفالهم وأسئلتهم، لأنه يعني الاهتمام بأعز وأغلى أفكارنا، وتبقى الطفولة هي ما يجب إعادة اكتشافه، فهي الفلسفة نفسها.

font change