في "القاهرة التجريبي"... المسرح السعودي بين الظل والضوء

تكريم ملحة عبدالله وعبد الإله السناني في التحكيم

مشهد من عرض "الظل الاخير"

في "القاهرة التجريبي"... المسرح السعودي بين الظل والضوء

القاهرة: منذ انطلاق دورته الأولى في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أدّى "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" دورا مهما في إنعاش المشهد المسرحي العربي، بصفته أول حدث نوعي متخصص من هذا النوع، متيحا للمسرحيين ضروبا من التفاعل من طريق التعرف إلى أوجه التجريب المختلفة في المشهد الدولي، وذلك باستضافة عروض أجنبية من كافة أنحاء العالم. في ما بعد توسع الأمر مع برامج الورش الفنية. لذلك لم يكن من الغريب أن يحوز المهرجان اهتمام المسرحيين العرب، لتشهد دوراته المتعاقبة بداية عدد كبير منهم، على كافة صعد عناصر العمل المسرحي.

على الرغم من تعدّد المهرجانات والفعاليات المشابهة خلال السنوات الماضية، وتراجع الأداء في بعض دورات المهرجان، لا يزال مهرجان المسرح التجريبي يحتفظ بشعبيته العربية وهو ما يمكن تلمسه في برنامج الدورة 31 منه، التي أقيمت على مدار عشرة أيام من الأول الى الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، بمشاركة عدد كبير من الدول العربية والأجنبية. وكان للمسرح الخليجي حضور لافت في دورة هذا العام بمشاركات من عمان والبحرين والكويت والإمارات، في حين أتت المشاركة السعودية مختلفة عن كل عام، حيث شملت قائمة المكرّمين الكاتبة المسرحية ملحة عبد الله الملقبة بسيدة المسرح السعودي، كما انضم الفنان عبد الإله السناني إلى عضوية لجنة التحكيم ليكون بذلك أول سعودي يشارك في لجان تحكيم المهرجان، في حين ترأس لجنة تحكيم هذا العام السيناريست المصري مدحت العدل.

أما عن العروض المسرحية، فقد شمل البرنامج عرضين من المملكة، لم يكن من الصعب تلمّس أوجه التشابه أو التقاطعات بينهما، بداية من الفكر الدرامي إذا جاز التعبير، فكلا العرضين ينطلق من أرض مشتركة من تأليف الكاتب والمخرج فهد ردة الحارثي الذي يُعد من رواد المسرح السعودي، حيث ارتبطت تجربته الفنية بالتاريخ الحديث لهذا المسرح، وقد كرّم بالمناسبة في الدورة الرابعة عشرة من "مهرجان المسرح الخليجي" المقامة في الرياض. كما ارتبط الحارثي بالمهرجان التجريبي منذ التسعينات، بداية من عرض "الفنار" الذي تبعه بعدد من المشاركات والعروض من بينها: "البروفة الأخيرة"(1998)، "لعبة كراسي"(1999)، "المحتكر"(2002) وغيرها. وقد كُرّم عن مشواره الفني ضمن مكرمي الدورة التاسعة والعشرين من المهرجان. وعن مشاركة هذا العام يقول الحارثي: "مثل هذه المهرجانات المسرحية التي تقوم على الحياة والفكر والفكرة، تُعيد للمسرحي تكوينه، تعيد ترتيب الحقائق داخله، تُحيـل عوالمـه إلى فضـاءات جديـدة".

مثل هذه المهرجانات المسرحية تُعيد للمسرحي تكوينه، تعيد ترتيب الحقائق داخله، تُحيـل عوالمـه إلى فضـاءات جديـدة

فهد ردة الحارثي

صراع النور والظلام

عُرضت مسرحية "ضوء" في العام الماضي على خشبة مسرح ردة الحارثي بجمعية الثقافة والفنون، ضمن فعاليات "مهرجان الرياض للمسرح" بالطائف. وهو أحد المهرجانات التي تهدف إلى "تنشيط المسرح السعودي وتفعيله من خلال حزمة من العروض المسرحية السعودية. ومن جديد شاركت فرقة "مسرح الطائف" بالعمل نفسه، الذي استضافه "مهرجان القاهرة التجريبي" هذا العام ضمن برنامج العروض غير التنافسية على هامش الفعاليات. العرض من إخراج أحمد الأحمري الذي نجح في تشييد عالمه السينوغرافي بما يتناسب مع قالب المسرح الثنائي (الديودراما) وترتكز الحبكة على مواجهة درامية بين شخصيتين.

مشهد من عرض "ضوء"

اعتمد الأحمري في توظيفه للعناصر الفنية على التقابل بين مجموعة الثنائيات، بداية من تصميم الإضاءة الذي انقسم مجالين: أحدهما معتم يقبع في الخلفية بعرض خشبة المسرح، والآخر متحرّك وحيوي في المقدمة حيث الممثلون. مثل هذا التنوع، لم يمنع تغليب تعتيم معظم الفضاء المسرحي، باستثناء بقع ضوئية تتوالى وتوظّف على المستويين الدرامي والنفسي. وتنطبق تلك الثنائية على قطع الإكسسوار القليلة التي استعين بها، وحتى السرير الذي وظّف بعداه (أعلى/أسفل) في توصيل حالة الترقب والخوف بين بطلي المسرحية وذلك أثناء لقائهما الأول، والذي يمثل مواجهة بين غريبين اجتمعا في مكان غير مأهول، أحدهما اعتاد الظلام، بينما الآخر لا يزال في أول التجربة، فأي من الجانبين ستكون له الغلبة.  

(إدارة المهرجان)

لا يقدم العرض إجابات قاطعة، فقط يتقاطع مع شخصياته ووحشتهم المفروضة بتسليط الضوء على الجانب المظلم في الرحلة، مراوحا في الزمن ومنتقلا في الأداء في ما يُشبه الاعتراف من أجل التطهر، وهو ما يشمل قاعة العرض في النهاية بظلامها الدامس، حيث يعمل غياب الضوء على توريط المشاهد في الحدث، مما يدعوه إلى البحث عن ضوئه الخاص أو المفقود. يقول جلال الدين الرومي في إحدى شذراته: "ابقِ عينيك على النُور لتعبر كل هذا الظلام".  

الظل الأخير

في إطار التجريب، يختلف التعامل مع الفضاء المسرحي عن أي شكل آخر، حيث تتحرر الظاهرة المسرحية كثيرا من الأساليب والأطر التقليدية في البناء السينوغرافي، وهو ما تكرر في عدد كبير من المسرحيات المشاركة هذا العام. من الأمثلة على ذلك، تأتي مسرحية "الظل الأخير" إنتاج فرقة "الوطن" السعودية، وفيها يتجاوز المخرج البحريني خالد الرويعي آفاق تكوين المشهد أو المنظر المسرحي، حيث تخلى كليا عن قطع الديكور المرافقة مستعيضا عنها بسينوغرافيا ضوئية متغيرة استطاعت ملء الفراغ وتشكيله وفق سياق اعتمد في جمالياته على دراما الجسد وحركة الممثلين. وفي الخلفية، شاشة عرض مرافقة في قلب المسرح، تعرض صورا وفيديوهات كمعادل للحالة النفسية المطروحة، وفي بعض الأحيان دمج المخرج بينها وبين حركة الممثلين لينصهر المشهد في شكل تفاعلي وكأنهم داخل الشاشة. 

نجح الأحمري في تشييد عالمه السينوغرافي بما يتناسب مع قالب المسرح الثنائي القائم على مواجهة درامية بين شخصيتين

في حوار سابق مع نشرة المهرجان، أكد الرويعي أن مفهوم التجريب المسرحي يجب أن ينطلق من "انزياح معرفي يُفضي إلى ذهاب جديد ومختلف، كشكل من أشكال الثورة ضد المفهوم والشكل"، لذلك نراه يُشيد بفلسفة رولان بارت حول "الفراغات الصالحة للعب" الأمر الذي أتاحه نص فهد ردة الحارثي لما يحمله من مستويات متعددة وصفها بـ"مساحات الخلق"، حيث تتوزع مهمة ملء تلك الفراغات بين عناصر العمل كافة، ومن خلال هذه الدينامية تنفجر المجابهة الحياتية على خشبة المسرح، كما يصفها بيتر بروك.

 من صفحته على إكس)
الفنان السعودي عبد الإله السناني

تتمحور فكرة المسرحية حول فلسفة الانتظار التي تستدعي بدورها العوالم العبثية لرائعة صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، حين يتعلق راهن الإنسان بانتظار ما لا يأتي، وعلى جانب آخر،  نجد أن كلا العملين استعان بموتيفة متشابهة في المشهد الافتتاحي: شجرة جرداء على الطريق عند بيكيت، وفروع جافة عند الرويعي، حملها الممثلون فوق ظهورهم كصليب، وبات من الصعب تبيّن الخط الفاصل بين الصلب والمصلوب. ونلاحظ أن الهم عند الأخير كان جمعيا رغم عبثيته، متمثلا في الشجرة، في حين انفرد فريق العرض بحمل الخطيئة منفردة، كلّ على حدة، وسرعان ما يتخلصون منها قبل نهاية المشهد الأول، فهناك مجموعة من القيود المشتركة/المنفردة في انتظار كل منهم.

تتخلى "الظل الأخير" عن الحوار تماما، وتكتفي كل شخصية بطرح مشكلتها في مونولوغ منفرد

لذلك يتخلى العرض عن الحوار تماما، والمقصود هنا بالحوار هو الحديث الكلامي بين الشخصيات، حيث اكتفى كل منهم بطرح مشكلته في ما يشبه المونولوغ وعلى نحو منفرد ولم يجمع بينهم غير التواصل الجسدي والتحامه أو حين يردّدون النداءات لذلك المنُتظر المجهول..، "يا من أطلت النوم قم.. يا من أطلت الصد قم". هنا يبدو النص محرضا على التغيير بخلاف الحالة التي عاشتها الشخصيات الخمس في "في انتظار غودو" –يتطابق العدد نفسه مع شخصيات "الظل الأخير"- حيث نتابع في أحد المناظر حوارا دائرا يقوم فيه إستراغون بتوبيخ فلاديمير قائلا: "ماذا أقول لك، إنك تنتظر دائما حتى اللحظة الأخيرة"، وهو ما يتم التمرد عليه في العرض السعودي من طريق عدد كبير من الرقصات والتشكيلات التعبيرية، كانت أشبه بالصلوات لاستحضار من لا يأتي، وحين تنحو نحو الحس الصوفي بالمولوية وغيرها، يلتبس الأمر من جديد حول فكرة الانتظار ومناداة الغائب المتكررة التي تحمل إشاراتها أكثر من تأويل، وليبقي الارتكان إلى الظل هو المعضلة الحقيقية، فحين يخضع الإنسان إلى انتظار الخلاص لن يعني هذا سوى انحصار آماله، ومن هنا وجب عليه إفساح المجال نحو الحرية والتخلي عن الظل حتى ولو كان الأخير مجلبة للراحة، لأنها لا تعني سوى الاطمئنان الزائف.     

font change

مقالات ذات صلة