رحيل صفية بن زقر... صنعت تاريخا للمرأة السعودية الرسامة

أحدث ظهورها انقلابا في المفاهيم الثقافية السائدة

AlMajalla
AlMajalla
الفنانة صفية بن زقر

رحيل صفية بن زقر... صنعت تاريخا للمرأة السعودية الرسامة

منذ بداياتها عزمت الرسامة السعودية صفية بن زقر التي غادرت عالمنا يوم أمس الخميس عن عمر ناهز الرابعة والثمانين عاما على أن توثق البيئة التي احتضنت طفولتها بعدما شعرت أن تلك البيئة في طريقها إلى الاندثار. فاهتدت إلى التصوير، ليكون عينها الثالثة. صوّرت مشاهد من البيئة وطقوس العادات والتقاليد الشعبية كما ركزت على أزياء المرأة ومقتنياتها الشخصية في مختلف أحوالها. ومن ثم رسمت كل شيء بطريقة تشي بقوة انتمائها إلى ما رسمته.

ريادة

كل ذلك يمكن المرور به سريعا لولا أن الامر يتعلق بصفية بن زقر التي هي أول امرأة تمارس الرسم في المملكة العربية السعودية، وهي ممارسة تنطوي على حكاية كفاح في بيئة محافظة.

لقد أحدث ظهور بن زقر نهاية الستينات انقلابا في المفاهيم الثقافية السائدة. اخترقت الفنانة يومئذ حاجزين، لا يمكن تخيل اختراقهما في تلك المرحلة. حاجز الموقف المتشدد من الرسم وبالأخص حين يكون تشخيصيا، وحاجز الموقف الثقافي والاجتماعي من المرأة.

تلك امرأة صنعت عبر خمسين سنة من الكدح تاريخا للرسم في بلد صار عدد من فنانيه جزءا من المشهد الفني في العالم

كانت صفية بن زقر امرأة رسامة. صفتان لم يكن التعامل معهما مقبولا، ثقافيا أو اجتماعيا. لذلك فإن النظر إلى ريادتها بقدر لافت من الإجلال لا يتعلق فقط بالقيمة الجمالية التي انطوت عليها أعمالها الفنية بل وأيضا بالمكانة التاريخية التي احتلتها وهي تؤسس بجرأة وشجاعة منقطعتي النظير لنوع من الحياة، ستصنع من خلاله نساء سعوديات بعدها عوالمهن التي تكشف عما كان مسكوتا عنه في ظل الهيمنة الذكورية المحروسة بسلطة رجال الدين التي لا ترى في المرأة كائنا ثقافيا.

(دارة صفية بن زقر)
الرسامة السعودية صفية بن زقر.

وإذا ما تأملنا علاقة المرأة السعودية بالرسم فلا بد أن نعترف أن الشجرة التي زرعتها صفية بن زقر أثمرت وقوي عودها. هناك اليوم عشرات من الرسامات السعوديات اللواتي ينافسن الرجال في مستوى وعيهن الجمالي والفكري وقدرتهن على استلهام الأساليب الحديثة في رسم لوحاتهن ولا يزال  أثر تجربة بن زقر واضحا عليهن.

يمكن تفسير وجود ذلك الأثر من خلال العودة إلى التربية الفنية للفنانة عبر مراحلها الدراسية وهذا ما انعكس على أسلوبها الفني الفريد الذي تنقلت من خلاله بين مدارس أوروبية مختلفة. لقد بدأت صفية بن زقر أكاديمية متشدّدة لتسترخي بعدها مع الانطباعية ثم لتكتشف ضالتها في رسوم الفرنسي بول سيزان، أبي الحداثة الفنية. وهو ما يكشف عن أن الفنانة وإن واجهت تحديا ثقافيا واجتماعيا محليا فإنها كانت تعمل على إغناء تجربتها بما تعلمته وما أطلعت عليه من التجارب العالمية.

واقعيا، فإن الفنانة أرست تقليدا يقوم على التحول. فهي وإن بدأت بتشدّد مدرسي، فإن ذلك لم يمنعها من أن تستجيب لمزاج سيزاني انفتحت من خلاله على المدارس الفنية الحديثة. تلك امرأة صنعت عبر خمسين سنة من الكدح تاريخا للرسم في بلد صار عدد من فنانيه جزءا من المشهد الفني في العالم.    

احتفاء بالجمال

ولدت صفية بن زقر عام 1940 في حارة الشام بجدة. ما بين عامي 1947 و1963 عاشت مع أهلها في القاهرة. بعدها غادرت إلى بريطانيا لتلتحق بمدرسة "فنشنك" حيث قضت هناك ثلاث سنوات، بعدها وفي أواخر عام 1965 عادت إلى القاهرة لتتلقى دروسا خصوصية في الرسم. ثم أمضت عامين في كلية "سان مارتن" للفنون بلندن لتنال شهادة في فني الرسم والغرافيك. عام 1968 أقامت أول معرض شخصي وذلك في مدرسة دار التربية الحديثة بجدة. بعد ذلك المعرض انتقلت للعرض في الرياض والظهران والجبيل والمدينة المنورة كما اقامت بعد سنوات معارض في باريس وجنيف ولندن.

(دارة صفية بن زقر)
لوحة "الزفاف".

عام 1995 افتتحت دارة صفية بن زقر. بيت هو أشبه بمتحف يضم أعمال الفنانة في جميع مراحل تطورها الأسلوبي. في تلك الدارة يقع مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة كما تستقبل الدارة ورشات للرسم وتقيم ندوات متخصصة في شؤون الفن.

سعت إلى أن تقدّم خلاصات تجربتها الفنية وبالأخص على مستوى التعامل مع مفردات البيئة المحلية وسعيها إلى توثيق التراث الشعبي السعودي

أصدرت الفنانة كتابين. الأول هو كتاب "المملكة العربية السعودية، نظرة فنانة الى الماضي"، والثاني هو كتاب "رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي". وفي الكتابين سعت بن زقر إلى أن تقدّم خلاصات لتجربتها الفنية وبالأخص على مستوى التعامل مع مفردات البيئة المحلية وسعيها إلى توثيق التراث الشعبي السعودي من خلال الرسم. وهي في ذلك المسعى انما تمثل مرحلة مهمة من مراحل الفن الحديث في السعودية حيث كانت أعمالها بمثابة القاعدة التي مزجت تفاصيل البيئة بالنسيج الاجتماعي. وهو ما جعل من رسومها مرجعا لدراسة أحوال المجتمع السعودي وأساليب احتفائه بالحياة.

وإذا ما كانت رسومها تغص بالحنين إلى زمن الطفولة، فإنها في الوقت نفسه أنهت فصلا ضروريا، عقدت من خلاله صلة قوية بين الرسم والمجتمع، في ظل ظروف تاريخية معقدة لم يكن المجتمع فيها في حالة قبول بالصنيع الفني الذي اقتصر يومها على الحلى ووسائل الزينة.

(دارة صفية بن زقر)
من لوحات الفنانة صفية بن زقر.

ولذلك يمكن القول إن صفية بن زقر صنعت زمنها بإرادة المرأة التي تتطلع إلى المستقبل محتفلة بكل ما يحيط بها من عناصر الجمال.

لا ينافسها أحد

كثر عدد الرسامات اثناء العقود الأخيرة. هناك اليوم رسامات سعوديات تفوق شهرتهن شهرة بن زقر. سيُقال إن هناك رسامات يرسمن أفضل منها. وهو أمر خاضع للنقاش. غير أن كل ذلك لم يؤثر على المكانة الفنية والتاريخية التي احتلتها الفنانة. فهي وحدها من بين كل الفنانات السعوديات يمكن الإشارة إليها باعتبارها ظاهرة.

فتحت الباب لأجيال من النساء لكي يدافعن عن اختلافهن من طريق الرسم

هي ظاهرة ثقافية. ذلك لأن الفنانة نجحت في إدخال مفردة الرسم النسوي في المجال الثقافي ولم يعد عمل المرأة الفني منحصرا بالأعمال اليدوية التقليدية. صار لها كلمة في ما يتعلق بأحوال الثقافة الحديثة. وهي ظاهرة فنية. ذلك لأنها استطاعت من خلال تجربتها الفنية التي تمتد لأكثر من خمسين عاما أن تقدم خبرتها في إطار تحولاتها بين المدارس الأسلوبية من غير أن يؤثر ذلك على وضوح شخصيتها. رسمت بن زقر بوحي من تطلعها إلى أن تكون المرأة التي تصنع المعادلة. أن تكون ابنة البيئة السعودية وفي الوقت نفسه وارثة الفن العالمي بكل أساليبه.

المرأة التي أدخلت الرسم من جهة نسوية إلى المملكة العربية السعودية، كانت في الوقت نفسه المنافسة التي كان على الرسامين الرجال أن ينظروا إليها بطريقة جادة. فهي لا تقيم وراء حجب الأعمال اليدوية التقليدية. كان لديها من المعرفة في أحوال الفن ما يؤهلها لمنافستهم. تلك هي الفنانة الظاهرة التي جسدتها صفية بن زقر.

(دارة صفية بن زقر)
الحياة اليومية في جدة القديمة.

تعود رسوم صفية بن زقر إلى زمن هو غير زمننا. ذلك هو زمنها الثقافي. الزمن الذي كافحت الفنانة من أجل أن يكون ممكنا. شيء من ذلك الزمن سيظل خالدا وهو يشير إلى ما بذلته تلك الرسامة من جهود من أجل أن يكون الرسم النسوي مقبولا. تجربة الفنانة بن زقر تمثل لحظة تحول في الوعي الاجتماعي. إنها الإشارة التي تقع خارج النص التاريخي. صفية بن زقر هي صانعة تاريخ مختلف. لقد انحرفت بالتاريخ لتملي عليه توقيتات زمنها. وهو زمن المرأة الرسامة، المبشرة بالرسم وسيلة للخلاص. هي التي فتحت الباب لأجيال من النساء لكي يدافعن عن اختلافهن من طريق الرسم.

font change

مقالات ذات صلة