الموسيقى في الحضارة الإسلامية... فنّ النخبة ورفيقة الفلاسفةhttps://www.majalla.com/node/322210/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%86%D9%91-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D8%B1%D9%81%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9
آلة ناي، عود، وزوج من الأقواس المزخرفة. صياد يمتطي خيلا، ويرتدي وشاحا يتدلى من خلفه قوسه، وغزال يهرب من الصياد.. تلك رسومات منقوشة في قصر الحير الغربي المبني في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الذي وصلت فيه الدولة الأموية الى أقصى اتساعها وازدهارها. في هذه اللوحة الفنية المحفوظة حتى اليوم من بقايا ذلك القصر الذي بني في عصر صدر الإسلام عام 109هـ، تتجلى لمحة من الحياة الاجتماعية لعلية القوم آنذاك حيث يبدو الذوق الرفيع والعناية بالفنون الموسيقية كإحدى أهم الصور التي تظهر بوضوح منذ اللحظة التي بدأ يتشكل فيها نهج العمارة والفن الإسلاميين الذي يعود الفضل الكبير في بدايته وانطلاقته إلى الدولة الأموية التي طبعت بآثارها وقيمها الثقافية والعمرانية والأدبية العصور الإسلامية التي جاءت من بعدها.
أما إذا انتقلنا إلى قصر الوليد بن يزيد، الخليفة الأموي المثير للجدال والانقسام، الذي سيأتي بعد هشام، وتتلبد سيرته بغيوم الخلاف والفرقة، وبوادر الشقاق، فسيترك وراءه تحفا معمارية طبعت بأثرها العميق مسيرة الفن الإسلامي، وشكلت علامة بارزة لا يمكن لأي باحث في تاريخ العمارة العربية إلا أن يتوقف عندها.
في قصر عمرة الذي يرجع بناؤه إلى القرن الثاني الهجري، نجد الفن يصل إلى مسافات أبعد؛ فنون الحياة والموسيقى تتجلى بأوضح صورها، نجد على الجدران رسوما لنساء ورجال يؤدون ألعابا رياضية ولعازف على العود وآخر ينفخ بالمزمار، ولطيور وحيوانات من قرود وغزلان وحمير وحشية ونمور وأسود، أما الدب فيظهر في لقطة مثيرة للعجب، إذ يجلس مندمجا وهو يعزف على آلة القيثارة.
نجد على جدران قصر عمرة رسوما لنساء ورجال يؤدون ألعابا رياضية ولعازف على العود وآخر ينفخ بالمزمار
كل هذه الشواهد تؤكد عمق حضور الفن والموسيقى والتصوير في حياة العرب الأوائل، من سادة قريش، أبناء الخلائف، بناة الحضارة العربية، ومؤسسي الإمبراطورية الإسلامية.
ازدهار
ولو ألقينا نظرة على الحالة الاجتماعية والثقافية للحضارة الإسلامية في عصورها المتعاقبة، خاصة في بغداد العباسية، وقرطبة الأموية، لوجدنا أن فنون الموسيقى والغناء شهدت ازدهارا لم يسبق له مثيل على مر التاريخ، فتطورت آلات الطرب والعزف، وانتعشت الألحان والمقامات، وتقدمت فنون الموسيقى وعلومها وآدابها حتى وصلت إلى مرحلة من النضج الفني امتد أثره إلى كافة أصقاع العالم، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه لم تشهد حضارة إنسانية على مر التاريخ، مثل ما حدث في الحضارة الإسلامية من ازدهار في فنون الموسيقى وعلومها وآلاتها، محمولة على أحد أرقى فنون الأدب العالمية، وهو الشعر الذي سجل منذ بواكيره الأولى في عصور العرب القديمة أرقى وأعذب الصور والقصائد الغزلية الرومانسية التي أمدّت حركة الغناء والموسيقى بحرارة عاطفية جياشة، وذائقة إبداعية خلدت أثرها على مر العصور.
ولهذا نجد عبد الحي الكتاني في كتابه "الحكومة النبوية"، يفرد فصلا بعنوان: "هل كان لبعض السلف اعتناء بعلم الموسيقى"، قال فيه: "لقد كان علم الموسيقى في الصدر الأول من الإسلام عند من يعلم مقداره من أجل العلوم، ولم يكن يتناوله إلا أعيان العلماء وأشرافهم"، وفي هذا السياق ترد قصة العالم الموسيقي الشهير إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وهو أحد رموز وعلماء العهد العباسي، كان عالما بالأدب وأصول الدين وعلم الكلام، والشعر والغناء، نديما للخلفاء، وصفه الإمام الذهبي بأنه "الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون، صاحب الموسيقى والشعر الرائق، والتصانيف الأدبية مع الفقه واللغة، كان ثقة عالما". ومما يروى أن الخليفة الرشيد خرج يوما للعلماء، وأمر بإحضارهم، وإدخال كل طبقة وحدها، وجعلوا يدخلون زمرا، وكان إسحاق الموصلي كلما دخلت طائفة دخل معها.
هذه الحظوة الفنية لعلم الموسيقى على بلاط النخبة والعلماء، أدت إلى تطور الموسيقى العربية بشكل كبير، فتوسعت ألحانها وإيقاعاتها، وبلغت أوجها في العصر العباسي. وإن كان الخلفاء العباسيون منذ المهدي وهارون الرشيد والأمين والمأمون، تذوقوا الموسيقى، ونالت عندهم مكانة رفيعة جليلة، فإن أحد خلفاء بني العباس وهو الخليفة العباسي الواثق بالله، تجاوز التذوق والاستماع، واحترف بنفسه الموسيقى، فأصبح ملحنا بارعا، وعازفا ماهرا على العود، ونبغ في الفن والموسيقى حتى وضع مائة لحن، وأغانيه مذكورة في كتاب "الأغاني" للأصفهاني، وشهد له حماد بن إسحاق الموصلي بأنه أعلم الخلفاء بهذا الفن، ولقيت الموسيقى على بلاطه من التشجيع والكرم، الى درجة وصفها المؤرخون بأن بلاطه تحول إلى معهد خاص للموسيقى.
الفلسفة والموسيقى
وبلغ نضج علوم الموسيقى في الحضارة الإسلامية أن أصبح أحد أهم العلوم التي لا بد للفيلسوف أن يحيط بها، وأن يفرد لها عناية واهتماما، في ظل تلك الظاهرة البارزة من طائفة العلماء الموسوعيين الذين برعوا في علوم الطب والهندسة والفلك والرياضيات، والموسيقى أيضا، كان علم الموسيقى من أرقى العلوم وأرفعها قدرا، يتداخل مع علوم الفلسفة والرياضيات والصوتيات واللغويات، ولذلك لا غرابة أن يقوم الفنان زرياب بثورة هائلة في فنون أوروبا الموسيقية عبر البوابة الأندلسية، فأضاف الوتر الخامس للعود، واستخدم آلات موسيقية متعددة وطورها مثل: آلات الطنبور والشهرود والقيثارة والزهر والكنّارة والقانون والربابة والكمنجة والمزمار والسرناي والناي والشبابة والصفارة، وذلك خلاف الآلات الإيقاعية وآلات النفخ النحاسية. كما أسس أول معهد لتعليم الموسيقى في العالم بقرطبة "دار المدنيات"، ووضع القواعد المنهجية لاكتشاف الموهوبين، وطرق تعلمهم لحرفة الموسيقى.
يندر أن تجد أي فيلسوف في تاريخ الحضارة الإسلامية لم يدل بدلوه في فن الموسيقى
ازدهرت المؤلفات في علم الموسيقى حتى يندر أن تجد أي فيلسوف في تاريخ الحضارة الإسلامية لم يدل بدلوه في هذا الفن، وبلغت المصنفات في فنون الموسيقى وعلومها المئات من الكتب، وقدم الفيلسوف الكبير أبو يوسف الكندي رسائل مهمة، منها "رسالة في خبر تأليف الألحان"، وإليه ينسب أول تدوين للموسيقى بالأحرف الأبجدية، ويشهد على ذلك السلم الموسيقي الذي دونه في مخطوطته الموسيقية المحفوظة في المتحف البريطاني، وبحسب المخطوطة فقد ورد فيها سجل لحن مدون يضعه كتمرين ودرس أول للتلميذ الذي يتعلم الضرب على العود. حيث تعتبر هذه أقدم وثيقة موسيقية للحن مدوّن ليس عند العرب فقط بل في تاريخ العود. هذا الاختراع هو ما جعل باحثين يقولون إن الجداول الموسيقية الحديثة مستمدة من الأبجدية العربية. (انظر موسوعة "ألف اختراع واختراع" البريطانية).
بعد الكندي بنحو سبعين سنة جاء المعلم الثاني الإمام أبي نصر الفارابي فطور آلة الربابة، سلف عائلة الكمان، وقدم العود المثمن (عود الفارابي)، واخترع آلة القانون، حيث تشير الكثير من المصادر القديمة إلى أن الفارابي هو من اخترع آلة القانون الموسيقية، وذكر ابن أبي أصيبعة في "طبقات الأطباء" أن الفارابي وصل في علم الموسيقى وعملها إلى غاياتها وإتقانها، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يستمع منها إلى ألحان بديعة، تتحرك بها الانفعالات، وفي سير أعلام النبلاء يصفه الإمام الذهبي بشيخ الفلسفة، وقال "إنه أول من اخترع آلة القانون".
كما ألف الفارابي كتبا عدة في الموسيقى، منها "كتاب الموسيقى الكبير"، و"كتاب في إحصاء الإيقاع"، و"كلام في النقلة مضافا إلى الإيقاع"، و"كلام في الموسيقى". لكن أشهرها الذي وصل إلينا هو "كتاب الموسيقى الكبير"، الذي تُرجم لأول مرة من اللغة العربية إلى العبرية في القرن الثاني عشر الميلادي، ومنها إلى اللاتينية. هذا الكتاب الضخم يعده كثيرون أهم مصنف عرفته البشرية في علم الموسيقى على الإطلاق.