غسان الخنيزي: أنا أكثر ميلا إلى التجارب الشعرية المفتوحة

إقلال في النشر وحضور مؤثّر

غسان الخنيزي: أنا أكثر ميلا إلى التجارب الشعرية المفتوحة

رغم أنه لم ينشر سوى ديوانين، إلا أن اسمه يحضر دوما إلى جانب أبرز أسماء جيل التسعينات وداخل قصيدة النثر السعودية عموما. شاعر مقلّ في الكتابة والنشر. أصدر ديوانه الأول "أوهام صغيرة" سنة 1995، وانتظر عقدين من الزمن كي يُصدر ديوانه الثاني "اختبار الحاسة". لم يكن ذلك انتظارا بقدر ما كان إشارة إلى مزاج شعري يستبطئ الكتابة، ويتأنى في استدراج الصور والاستعارات إلى نسيج القصائد التي يُراد لها أن تكون مساحة للتأمل واكتشاف قدرة الكلمات على الإدهاش وتوليد المعاني والاستعارات، وحيث علاقة الشاعر باللغة هي "علاقة جمالية" كما يصفها هو، وحيث "كتابة الشعر هي بحثٌ شخصي عن شيء جديد".

إلى جانب الكتابة، وبالتأنّي نفسه، ترجم الخنيزي أشعارا عن الإنكليزية، وأصدر مختارات للشاعر الأميركي جون آشبري بعنوان "صورة ذاتية في مرآة محدّبة وقصائد أخرى".

هنا حوار مع الشاعر الذي كان نال جائزة سركون بولص للشعر وترجمته عام 2021.

  • لنبدأ من بداياتك. قراءاتك وتأثيراتها، ثم كتابة قصيدة النثر في مناخ كان الوزن والتفعيلة غالبين عليه في بداية التسعينات في السعودية؟

ربما أكون بين حين وآخر بحاجة إلى سؤال مثل هذا لكي أراجع السيرة وأراها بمنظور اللحظة، لتتكشف لي وقائع نفسية في الغالب لم ألتفت إليها من قبل أو أقلب النظر فيها بما يكفي... أجدني بصورة متزايدة أستحضر مشهد الصبي الذي لم يتعدَّ العقد الأول من العمر بكثير، يتنقل بين بيوت العائلة الممتدة، لتتسلل إلى مسامعه أطراف نقاش ثقافي هنا وجدال فكري هناك... كانت المسافة بين بيت هذا العم وذلك الخال تفصل بين مجلس يعج بالأفكار الراديكالية والأهواء الفكرية لفترة نهاية الستينات. كأن يكون النقاش حول قصيدة حماسية لأبي القاسم الشابي أو قصيدة لشاعر مهجري مثل أيليا أبي ماضي تكتنف تساؤلات وجودية... ومجلس آخر يرتاده شعراء مطبوعون منهم التقليدي والمنبري والرومانسي المجدد يحمى بينهم وطيس نقاش حول تصرف شعري في قاعدة نحوية، أو لزومية ما لإبي العلاء، وهو بالمناسبة شاعرٌ حُفر اسمه في تلافيف الذاكرة، لتأملي بشكل يومي لغلاف ديوانه ذي العنوان العجيب "سقط الزند" وبجواره مجلدات لكتاب آخر جذبني عنوانه إلى قراءته بانغماس يشبه انغماسي في قراءة المجلات المصورة مثل "سوبرمان" وغيرها وهو كتاب المسعودي "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، إذْ تصادف وجود هذين السفرين التراثيين في كوة عالية بمستوى السرير ذي الطابقين في غرفة طفولتي. لم تكن بيداغوجيا واعية بالتأكيد، وإنما تشربٌ لرشاش حبر على صفحة بياض، وتخلّق شعور بمعالم طرق مختلفة في النظر إلى الشعر وإلى تاريخ المعمورة وجغرافيتها، معالم ألفتها، مثلها في ذلك كمثل المعالم في الطريق خارج بيتنا التي أعرف عن ظهر قلب أن كل واحدة منها تؤدّي إلى حارة ما من حارات مدينتا القديمة.

ما شكّل فكرتي حول الكتابة الشعرية كان جلوسي قارئا ومتعلما بين يدي سردية التحديث في الشعر العربي المعاصر

على أن ما شكّل فكرتي حول الكتابة الشعرية كان جلوسي قارئا ومتعلما بين يدي سردية التحديث في الشعر العربي المعاصر، لنقل: منذ نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصولا إلى سلسلة شعراء "التفعيلة الحرة" الآخرين الذين وضعتهم جنبا إلى جنب المجلدات الأيقونية لأعمالهم "الكاملة" الصادرة عن "دار العودة" اللبنانية… وصولا إلى مطالعاتي منذ منتصف الثمانينات، التي ربما أراها مكثفة بصورة بالغة الانتقائية، في دوريات مثل "الكرمل"، و"كلمات"، و"مواقف"، و"أدب ونقد". ولعلنا نعرف أسماء الشعراء والكتاب الذين يمثلون الطاقة أو الكاريزما الإبداعية وراء كل واحدة منها.

وفي مجمل هذا السردية وجدت ذائقتي في قراءة الشعر وكتابته تميل أكثر وأكثر إلى الأشكال الشعرية المفتوحة بمختلف مسمياتها المتداخلة: الشعر الحر - قصيدة النثر - شعر اللغة… وكنت منذ البداية مدركا لمثل هذه التداخلات المربكة في كنه هذه الكتابة التي قررت الاطمئنان – منفردا - إلى "يقين" تقلباتها وتناقضاتها أسوة باطمئناننا كمتلقين تجاه "يقين" تقلبات: أهوائنا الأدبية، وقيمنا الفكرية، وسردياتنا المتخيلة سواء بسواء. لم تكن، إذن، ثمة صورة ذات طابع محلي لازمةٌ وملزمة عند النظر إلى ما يتطلع إليه المرء من كتابة نوعية.

أقران

  • في تلك الفترة كان هناك ما يمكن أن نسميه جيلا شعريا يولد ويتطور في المملكة. كيف حدث ذلك، ومن هم الذين كانوا أقرانك في تلك الحقبة، وما مميزات هذا الجيل؟

مثل التجاذبات الإبداعية كلها، فما تواضعنا على تسميته، في نهاية المطاف، بجيل شعراء التسعينات في السعودية، لم يتشكل بصورة قصدية وواضحة… كان على الأغلب التقاء قاصدي معرفة على تقاطعات طرق. حيث كانت الملاحق الثقافية للصحف والمجلات كـ"اليوم" و"عكاظ" و"الرياض" و"اليمامة"، وفعاليات فروع جمعية الثقافة والفنون، وبعض النوادي الأدبية، بمكانة الإناء الباتق لمواهب وميول إبداعية من كل حدب وصوب من المملكة وخارجها. بدأتُ المشاركة بترجمات من الإنكليزية إثر تعرفي إلى المشرف الثقافي بجريدة "اليوم" عبد الرؤوف الغزال وذلك عام 1988، ووجدتني مع مرور الوقت أساهم بمتابعات انطباعية للإصدارات والفعاليات الأدبية، وأشارك جنبا إلى جنب مع أدباء آخرين كالشاعر حسن السبع والقاص أحمد بوقري في تجهيز وتحرير مواد الملحق الثقافي. وفي ذات الفترة تعرفت إلى الشاعر عادل خزام الذي، بحماسته الوقادة، منحني جسارة أكبر في إعمال المخيلة. كما تعرفت إلى الشاعر أحمد الملا، وأُخذت بطبيعة الحال بخصوصية لغته الشعرية والكاريزما الإبداعية العالية فيها. كنت فترتها أنظر بإعجاب كبير إلى تجربة الشاعر محمد الدميني، السابقة لتجربتنا. وبأثر منه على الأرجح اهتديت إلى توليفتي الخاصة لدى الوقوف المتعطف على الذات أمام الأطلال: أمام كل ما اندثر وما يتعذر استعادته، أعني بذلك طرازا من النوستالجيا التي يترجمها "مورد" منير بعلبكي إلى: الوِطان، التوق إلى الموئل البدئي الذي يكون فناؤه الفيزيائي شرطا لبقائه متربعا في الفكر والطوية.

جيل شعراء التسعينات في السعودية، لم يتشكل بصورة قصدية وواضحة، كان على الأغلب التقاء قاصدي معرفة على تقاطعات طرق

وفي مطلع التسعينات تكرّرت لقاءات ورحلات جمعتنا بأصدقاء باتوا بعد فترة وجيزة يمثلون جيل التسعينات من شعراء قصيدة النثر: أحمد الملا، وعبد الله السفر، وإبراهيم الحسين، ويوسف المحيميد، وأحمد كتوعة، وعلي العمري، وعيد الخميسي، ومحمد حبيبي، وعبد الوهاب العريّض ومحمد الحرز… وما ميز جيلنا إلى حد كبير نشأتنا اليتيمة بلا آباء روحيين كما كان الحال مع التيارات "الحداثية" الأخرى، كالتيار الواقعي برموزه الكبار كالشاعرين محمد العلي وعلي الدميني، أو التيار الألسني الذي برز فيه بصورة جادة الناقد سعيد السريحي. فقد كنا في سلو عن الجدالات الدائرة بين هذين التيارين، تشغلنا رؤية إبداعية اهتمت حينها بالبحث عن مقاربات أكثر تجريبية للأشكال الشعرية والأساليب اللغوية. وما تلا ذلك كله هو تاريخٌ فيه أكثر من حكاية، ربما.

بغداد وأميركا

  • عشتَ جزءا من طفولتك ونشأتك في بغداد والعراق. وجزءا أكبر من حياتك في أميركا. هل ظهر أثرٌ من ذلك في كتاباتك وخياراتك، وكيف؟

بغداد لبنةٌ وأساسٌ في بنيتي النفسية والفكرية، ففي مطلع السبعينات كانت عاصمة "الرشيد" منارة حضارة ومجتمعا مدنيا راسخا، ونقطة تقاطع بين أزمنة وتيارات سياسية وفكرية كان بإمكان عين الصبي أن تراها في الشعارات الصاخبة في لافتات الشوارع، وبإمكان عين التلميذ أن تلحظ ديناميات الحضور المتنوع لمدرسي وتلاميذ "متوسطة المأمون" الذين ينحدرون من قوميات وأديان وانتماءات سياسية متعددة، وكان لفضولي المعرفي أن يزجي وقته بتساؤلاتها… أجدني ربما أتجول لساعات طوال وحيدا في المتحف العراقي، في الحضرة المهيبة لتماثيل الثيران والأسود المجنحة من نينوى الآشورية، والألواح المسمارية من أور السومرية. أو أتفحص بسطات الكتب في شارع السعدون بالقرب من ساحة التحرير بحثا عن كتب الناشئة ومجلاتهم. أو أراني جالسا في ركن مجلس البيت الذي كان ملتقى للزائرين من الأهل وأصدقاء العائلة من المقيمين والدارسين في الخارج، في بغداد، والبصرة، ودمشق، وبيروت، وغيرها. فقد يزورنا يوما الشاعر عبد الله الجشي الذي كان سعوديو بغداد يطلقون عليه لقب "الأستاذ"، أو الكاتب إسحاق الشيخ يعقوب، فيكون أن أنصت لما يدور من أحاديث، وألاحظ تفاوت الديباجات ولياقات الحديث بين هذا وذاك، من تيارات فكرية مختلفة ومتخالفة أحيانا. إنما في العمق وفي كنف تلك الجالية من سعوديي بغداد تعرفت عن قرب، وفي وقت قصير، إلى أقراني من أولاد العائلات السعودية وإلى شخصيات الأمهات والآباء من أصدقاء العائلة من مناطق مختلفة من المملكة، وشعرت منذها بمذاق أن تكون سعوديا، وهذه الرحلة في تلمس وفهم هويتي الفردية والجمعية، من على بعد ما، تكررت وتعمقت بطبيعة الحال، غبّ تجربة الابتعاث الجامعي. وفي الولايات المتحدة، كانت موارد الثقافة الإنكليزية منها والعربية متاحة بوفرة: من الكتب والدوريات الأدبية، والعروض المسرحية، والأمسيات الموسيقية الكلاسيكية منها والمعاصرة، التي أظنها في المجمل شكلت إلى حد كبير ذائقتي للإبداع ونظرتي لخياراتي كمتلق.

كلما ازددنا معرفة بالتراث الإبداعي العربي والإنساني تقلص إحساسنا بحجم ذواتنا المبدعة

  • أول ما يلاحظ في تجربتك هو القلة. القلة في الكتابة، القلة في النشر. ويكاد يكون ذلك مزاجا أو أسلوبا شخصيا. في واحدة من قصائدك تقول ما معناه أن الكلام حتى لو كان قليلا هو كثيرٌ أيضا. من أين يأتي ذلك؟

أتخيل الأمر ينبع من موقف "رواقي" إذا صح لي التنطّع بهذا التعبير، موقف ينفر من التفكير بالتمني أو التفكير "الرغبوي" ونحن ننهل من التراث الإبداعي العربي والإنساني الذي كلما ازددنا معرفة به تقلص إحساسنا بحجم ذواتنا المبدعة، وهو موقف شخصي بالدرجة الأولى يظل بمثابة الكابح أمام الانهمار في القول المكرور والمستعاد. وإزاء سؤال مثل هذا يجدر بي استعادة إجابة الكاتب الصحفي عبد الرؤوف الغزال في مقابلة بجريدة عكاظ مطلع هذا العام حول عزوفه عن نشر كتاب مطبوع. وأراه يلخص الفكرة بحدّية صادقة خلو من الفذلكة تماما: "لا فائدة من إصدار وطبع كتب لا تشكل علامة فارقة في المشهد الثقافي، وأسأل نفسي ما أهمية كتب الشعر والقصص والفكر والأدب والمذكرات والمقالات إذا لم يقرأها الجيل التالي ويبني عليها تجاربه".

كتابة الشعر بالنسبة إليّ هي فعالية نافلة تماما، ليست ضرورية بالتأكيد. فكتابة الشعر هي بحث شخصي عن شيء جديد في التركيب اللغوي وفى وجهة القول ونبرته، بما يفيض ويختلف عما عرفنا أو قرأنا من قبل، بهذا المعنى فإن كل قراءة أو تذوق لقصيدة جديدة هنا أو هناك ربما تعنى إلغاء لمشروع قصيدة بداخلي، وهذا ما أقصد بكونها نافلة وفرض كفاية، إذا قام بها البعض سقطت عن الباقي. واليوم مع وفرة المصادر إلى حد غير مسبوق، لم يبق إلا القليل فى متن التقليد ليُكتب. إذن، فمثل هذا الاستنتاج قد يكون على الأرجح مدعاة للصمت، والتخفف من فكرة ضرورة الكتابة الشعرية.

  • نشرت ديوانك الأول "أوهام صغيرة" في بيروت. لماذا اخترت بيروت، وهل كان ذلك محاولة للبدء والانتماء إلى مناخات ومدينة انطلقت منها الحداثة الشعرية وقصيدة النثر؟

أظن أن الإجابة يتضمنها السؤال ذاته. وإذا أردنا أن نحرر المعنى ونقدم المصداق على الأهمية البالغة لما يقترحه السؤال، دعني أستعيد ذات يوم من عام 1994، حيث وقفنا، بلا سابق موعد، أنا والشاعر أحمد الملا على باب مكتب "دار الجديد" بعمارة "الأونيون" قرب حديقة الصنائع في بيروت، وكلٌّ منا بيده مخطوطة ديوانه. تعرفنا ذلك اليوم على صاحبي الدار الناشرين: الراحل لقمان سليم ورشا الأمير، وكان بيننا لقاء عمل انتهى على أي حال بعلاقة عضوية بين دار الجديد وجيل من شعراء قصيدة النثر السعوديين اتّفقَ في ما بعد على تسميتهم بشعراء التسعينات. كانت دار الجديد لحظتها أيقونة في مشهد النشر العربي، لعنايتها الفائقة والرائدة في صناعة الكتاب بحرفية عالية تجمع تقاليد ممتدة من حقب تاريخيّة وحواضن ثقافية ولغوية منتقاة، وبهوية بصرية لا تخطؤها العين. وكانت بطبيعة الحال محجة لأبرز الأسماء العربية بينها العديد من الأقلام الشعرية موضع الاحتفاء مثل بول شاوول، ووديع سعادة، وعباس بيضون، وعيسى مخلوف، وبسام حجار، ومحمود درويش، وأدونيس، على سبيل المثال لا الحصر، في قائمة تطول. ومختصر القول إن غالبية شعراء قصيدة النثر من "جيل التسعينات" السعوديين دخلوا ساحة النشر على مستوى العالم العربي من بوابة دار الجديد، وذلك بين عامي 1995 وحتى 1997. ومن نافل القول إن جزءا من إرث ذلك الجيل من الشعراء، هو الأثر المتصل لدار الجديد، بما افتتحته تلك الإصدارات الباكرة من اهتمام واسع ومتابعات نقدية، محلية وعربية، لأعمال جيل شعري في طور التشكل والتمايز برؤيته الإبداعية الجديدة.

بين تجربتين

  • ما الذي تغير أو تطور بين ديوانك الأول "أوهام صغيرة"، والثاني "اختبار الحاسة". ولماذا تأجل إصدارك له عشرين سنة؟

الأعوام العشرون بين الإصدارين هي محاولتي للإجابة عن ذات السؤال. ما الجديد في الأسلوب وفي نَفَس القول الذي يمنحني المبرر لإصدار جديد. كنت ربما بحاجة لمسافة فيزيائية لأرى نفسي ثانية من بعيد. مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ مجموعة "أوهام صغيرة"، وعندما أعود إليها الآن، أراها نصوصا تهتم بخطاب يستعين بالتراث الشعري معنى ومبنى، وبلغة تحفر في الموروث أكثر مما تنظر إلى خارجه. وتغلب عليها ثيمات العبور إلى مرحلة نضج بما تعنيه من سقوط الأوهام والخروج من الجلباب الآمن للجماعة في رحلة متاهة لا تنتهي، لا يرافقني فيها إلا استعادتي لثنايا ذلك الجلباب مشتاقا شوق الطفل إليه، وكأنها ثنائية أو جدلية مقدرة بين كل فعلين نقيضين. وأظن أن هذه الثنائية ستظل تحكم نظرتي إلى الأشياء وتحضر على سبيل المثال في أغلب نصوص المجموعة الثانية "اختبار الحاسة" حيث التردد والمراوحة بينما هو في اليد وما هو على غصن الشجرة.

هذه الثنائية ستظل تحكم نظرتي إلى الأشياء وتحضر على سبيل المثل في أغلب نصوص المجموعة الثانية "اختبار الحاسة"

على أن "اختبار الحاسة" هي على الأرجح نصوص أكثر علاقة بلحظتها، فهي تسجيل للآني. وقد نبهني ربما مقال للشاعر محمد مظلوم إلى تفاوتي الحائر بين البوح الشعوري والوصف المشهدي من على مبعدة. لم يكن يشغلني كثيرا لحظتها هاجس خلق أسلوبية معينة. ولهذا أجد نصوص "اختبار الحاسة" أقل تجريبية وقابلية لتعدد القراءات مقارنة بما هو الحال مع "أوهام صغيرة". ولعل هذا الإحساس هو ما جعلني أتردد في نشرها. وفي نصوصي التي أكتبها حاليا، أحاول التوفيق بين المقصدين وأن اهتم أكثر بتخليق الفكرة الشعرية.

  • في قصائدك هناك عناية شديدة باللغة، باختيار الكلمات وجماليات الصور والاستعارات. وفي الوقت نفسه لا تتخلى عن متانة هذه اللغة وفصاحتها. هل يأتي ذلك من النفوذ القوي الذي لا تزال اللغة التراثية تمتلكه في الشعر السعودي؟ وهل تجربتك هي محاولة لكتابة "قصيدة نثر" جيدة بعتاد لغوي أقدم منها؟

نحن بالفعل نجوّد أسلوبنا اللغوي بعتاد ضارب في القدم. فثمة خاصية في اللغة العربية تحميها من سيرورة الاندثار التي هي قدر معظم لغات العالم القديمة. وهي ميزة حظيت بها اللغة العربية دون غيرها لعلاقتها اللزم بالنص القرآني. فرغم كوننا منذ مطلع القرن العشرين، وبأثر من الترجمة واستعاراتنا المكثفة للأساليب التعبيرية الحديثة من اللغات الأوروبية، توصلنا إلى توليفة من اللغة الفصحى ذات المقصد الاخباري بالدرجة الأولى، والمتحررة من المحسنات البديعية والتعبيرات الحشوية التي ازدان بها زخرف الخطاب العربي لقرون طوال، بما صح لها أن تُسمى حينها بلغة الجرائد، إلا أنه لا يضيرنا في ذات الوقت الاستعانة بمفردات وصياغات من أي لحظة في مسار تطور اللغة.

وطالما كانت المعاجم كالمنجد والمورد وكتب اللغة موضع تصفح وتزجية وقت بالنسبة لي منذ الطفولة. يروقني الغوص في المفردات وأصولها وأطياف معانيها. وأحسب أن علاقتي بالمعجم تغلب وتهذّب أو تكبح عفوية القول، كما لو أنها رغبةٌ جاهدةٌ، كما أظن، في الإتيان بشيء جديد. واخيرا صرنا نتحدث عن ذلك النوع من القصيدة النثرية التي تدور في رحى اللغة ذاتها… ولعلني أتمنى أن أجد آفاقا في نصوص تحمل تجريبا لغويا يترك مساحة لدور القارئ في خلق المعنى. وبطبيعة الحال فعندما تُفقد مرجعية المعنى فإننا نفتح الصدور لشبهة الغموض. ولكن قل لي - في هذا الضجيج المحتدم بالأهواء، والذرائع، وتعدد المرجعيات أكثر فأكثر - أين يكمن المعنى؟

الترجمة

  • إلى جانب الشعر، لديك ترجمات متفرقة عن الإنكليزية. أصدرت مختارات للشاعر الأميركي جون آشبري. ما الذي دفعك إلى التركيز على آشبري، وماذا اعطتك الترجمة كشاعر؟

جون آشبري من أهم الأصوات في الشعر الأميركي الحديث. فقد حصل ديوانه "صورة ذاتية في مرآة محدبة" فور صدوره عام 1975 على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة. ومكانة آشبري تأتي من قدرته الفريدة على التجديد والابتكار: فقد استخدم اللغة بشكل غير تقليدي مدمجا العديد من الأصوات والمؤثرات الفنية، تاركا تأثيرا واسعا على الشعراء الآخرين من جيله والذين جاؤوا بعده، فاتحا الطريق أمام العديد منهم لتبني أساليب أكثر حرية في الكتابة. وتميز بالعمق الفلسفي حيث كان شعره غالبا ما يتناول قضايا معقدة مثل الهوية، والذاكرة، والزمن.

والترجمة بالنسبة إليّ فعالية غرضها ومردودها التعريف بما هو مختلف ومستجد على طرائقنا اللغوية وأساليبنا في صوغ الخطاب الشعري. والترجمة على كل حال كانت لقرنين من الزمان ولا تزال، مصدرا رئيسا للتغيير في لغتنا العربية، وفي قيمنا الفكرية والجمالية، أكان في اتجاه التجديد والتحرر، أو الانغلاق والتزمت.

أجيال وأسماء

  • أخيرا، وبالمقارنة مع جيلكم، كيف ترى التجارب والأسماء الجديدة في الشعر السعودي اليوم، وهل تجد أثرا من تجاربكم في نصوصهم؟

يصعب في هذه العجالة الإتيان بقائمة قصيرة من الأسماء، لوفرتها أولا، ولاتساع نطاق اشتغالاتها الإبداعية. ولعلنا نترك الأمر للعمل النقدي الباحث في سردية قصيدة النثر السعودية بمجملها. وهنالك جهود مائزة في هذا المجال اضطلع بها العديد من المهتمين كالناقدين عبد الله السفر ومحمد الحرز وغيرهما.

  نرصد اعترافا ناجزا بمكانة بقصيدة النثر في الأوساط الثقافية عندما مُنح الشاعران أحمد الملا ومحمد حبيبي الجائزة الأدبية الأهم في المملكة

إنما يمكنني بلا تردد ذكر بعض الأسماء التي سبقتنا في كتابة قصيدة النثر، مثل فوزية أبو خالد، ومحمد عبيد الحربي، واستعادة ما تركا لدي من تأملات وتصورات حول فكرة الشروع في الكتابة الشعرية انطلاقا من مشتركات عدة بيننا كالهوية الجمعية، وتضاريس المكان، والسرديات الاجتماعية والثقافية، وديناميات التزامن. وأتخيل أن أثرا مشابها لا بد أن تجاربنا قد تركته في الأجيال اللاحقة من الشعراء، بمن فيهم بعض كتاب التفعيلة الحرة. ولعلنا نستطيع التعرف إلى العديد من التجارب اللافتة في القصيدة النثرية عندما نعود إلى الجهود التي اعتنت بقراءة ورصد الشعر المعاصر في السعودية، أكان في المؤلفات النقدية لمنصور الحازمي، وسعد البازعي، ونذير العظمة، وعبد الله السمطي، وغيرهم، أو في عدد من الأنطولوجيات الشعرية، كاختيارات الشاعر والصحافي زكي الصدير لنصوص ثلاثين من الشعراء الشباب في مجلة "الفيصل" مطلع عام 2016، أو اختيارات الشاعر محمد خضر في أنطولوجيا "30 حاسة جديدة" الصادرة عام 2021.

ولكننا نعرف أن بداية الألفية شهدت توسعا في هذا النوع من الكتابة الشعرية من خلال أسماء وعناوين جديدة، وقد تأوّجت هذه الظاهرة في عدد من دورات معرض الرياض السنوي للكتاب منذ عام 2007 حيث بات المعرض لفترة من الزمن موعدا منتظرا للإصدارات والأسماء الشعرية الجديدة. ولنا من ناحية أخرى أن نستعرض الأسماء التي كُرّمت في مبادرات لاحقة مثل جوائز مهرجان الشعر العربي بالدمام في دوراته في الأعوام 2015 إلى 2017. ولعلنا نرصد اعترافا ناجزا بمكانة بقصيدة النثر في الأوساط الثقافية عندما مُنح الشاعران أحمد الملا في العام 2015، ومحمد حبيبي في العام 2021، الجائزة الأدبية الأهم في المملكة، وهي جائزة محمد الثبيتي الشعرية التي يقدمها نادي الطائف الأدبي. وكذا الحال مع تخصيص مسارات لقصيدة النثر بصورة منتظمة في مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة، كمسابقة "معلقة 45" التي أجريت نهاية العام المنصرم.

font change

مقالات ذات صلة