يبدو شبح حرب عالمية ثالثة وكأنه يلوح في سماء العالم من بعيد للمرة الأولى منذ أكثر من ثمانية عقود. وقد حلت فى الأول من سبتمبر/أيلول الجاري الذكرى الخامسة والثمانين لاندلاع الحرب العالمية الثانية في الوقت الذي يزداد فيه الحديث عن حربٍ ثالثة مقترنا بتحولات مثيرةٍ للقلق في حرب أوكرانيا بعد نحو عامين ونصف العام من نشوبها. لم يحدث مثل هذا الانشغال باحتمالات اندلاع حرب ثالثة منذ انتهاء الحرب الثانية، التي اعتُبرت خاتمة الحروب الكونية أو كان معتقدا أنها كذلك.
فقد استوعب قادة العالم بُعيدها دروس أهوالها وويلاتها، واندفعوا لوضع قواعد لتنظيم إدارة العلاقات الدولية بطرق سلمية، فعُقدت عشرات المعاهدات والاتفاقات التي تضمنت قواعد ومعايير غير مسبوقة في التاريخ.
غير أن العالم تغير كثيرا، وما زال، منذ ذلك الوقت، فصار الحديث الآن عن حرب ثالثة أمرا معتادا بعد أن كان نادرا. ويثير هذا التطور النوعي أسئلة كثيرة، أهمها عن العوامل التي أوصلت العالم إلى هذا الوضع، وإلى أي مدى يُعد نشوب حرب ثالثة ممكنا فعلا، وحدود هذه الحرب ضيقا واتساعا إن وقعت.
ارتفاع منسوب المواجهة الروسية-الغربية
لم يكن ممكنا أن يبقى الخطر الناتج من حدث هائل بحجم حرب أوكرانيا محدودا ومحصورا أو محاصرا طول الوقت. وليس طبيعيا أن تبقى العمليات العسكرية فيها منخفضة الحدة في غياب أية محاولة لوضع حدٍ لها. كان ضروريا أن يتغير هذا الوضع في وقت أو آخر. وجاء ذلك الوقت بعد أن حصلت أوكرانيا في مارس/آذار الماضي على إمدادات عسكرية كبيرة بعضها نوعي غير مسبوق منذ بداية الحرب، ثم تمكنت من تعديل مواقف بعض الحكومات الأوروبية بشأن ضوابط استخدام الأسلحة التي تزودها بها. وأدى ذلك إلى تراجع نسبي للحذر الذي التزم به حلف "الناتو" وأعضاؤه حين حرصوا على تقييد استخدام كييف الأسلحة الغربية، وإلزامها بعدم استخدامها في استهداف الأراضي الروسية.
وقد بدأت بعض الدول الغربية، وخاصة بريطانيا وألمانيا وبولندا، في مراجعة ذلك الالتزام، ومن ثم السماح لكييف باستخدام أسلحة زودتها بها في ضرب مواقع روسية قريبة إلى الحدود. كما توافرت أنباء عن موافقة لندن على أن تستخدم كييف صواريخ "ستورم شادو" التي يصل مداها إلى ما يقرب من مائتي كيلومتر دون قيود، برغم أن واشنطن لا تؤيد هذا الاتجاه حتى الآن.
وتزامن ذلك مع قيام القوات الأوكرانية بهجومها المباغت وتوغلها في إقليم كورسك يوم 6 أغسطس/آب الماضي، في أول احتلالٍ لأراضٍ روسية منذ الحرب الثانية. وإذ فوجئت موسكو بذلك الهجوم، الذي لم تكن مستعدة له ولا لهجوم مضاد سريع ربما لعدم وجود احتياطي استراتيجي يكفي، فقد بات خطابها السياسي أشد حدة وأخذ يتراوح بين تلميحٍ لتسليح أعداء الغرب بصواريخ بعيدة المدى، وتحذيرٍ من نشوب حرب عالمية ينطوي أحيانا على تلويحٍ بها.
أتاح التواصل المباشر- الغائب مثله الآن- تجنب حرب عالمية كانت وشيكة للغاية عام 1962 عندما اكتشف الأميركيون وجود قواعد صواريخ سوفياتية سرية في كوبا
وليست هذه هي المرة الأولى التي تُلَوح فيها موسكو بالحرب العالمية، إذ تكرر ذلك مرات منذ بداية الحرب، ولكن ليس بهذا المستوى من القوة والحدة. فقد حملت التصريحات الأخيرة الصادرة عن مسؤولين كبار فيها معاني تتراوح بين مراجعة العقيدة النووية الروسية بما يناسب التهديد الذي تعتقد موسكو أنه يواجهها، وتوجيه ضربات ضد أهداف في دول حلف "الناتو" ردا على استهداف العمق الروسي بأسلحة غربية.
وإن حدث ذلك، فالمفترض أن تُفَعّل المادة الخامسة من ميثاق حلف "الناتو" التي تنص على أن أي تهديد عسكري لدولة عضو فيه يعتبر اعتداء على دوله جميعها. وعندئذ قد يصبح الباب مفتوحا أو مواربا لصدام يُخشى أن يتدحرج تدريجيا ويقود إلى حرب واسعة قد لا تقتصر على روسيا وحلف "الناتو"، ما لم يمكن تدارك الموقف بالسرعة التي تستوجبها خطورة تطور بهذا الحجم ومن هذا النوع.
غير أن خطر نشوب حرب ثالثة لا يعود فقط إلى التحول الذي طرأ في مجريات حرب أوكرانيا، وما قد يتبعه. فقد تراكمت قبل هذا التحول تطورات رفعت مستوى التوتر في العالم، فصارت سماؤه ملبدة بغيوم يبدو أن كثافتها تزداد مع الوقت.
استقطاب غير مسبوق منذ الحرب الثانية
يعد الاستقطاب المتزايد في العالم اليوم من أهم التحولات التي جعلت نشوب حرب ثالثة موضع جدل واهتمام على نطاق واسع. بلغ هذا الاستقطاب مستوى متقدما مع تصاعد الأزمة في أوكرانيا ونشوب الحرب فيها، ثم اندلاع الحرب في قطاع غزة وامتدادها إلى الضفة الغربية وتنامي المخاوف من توسع نطاقها.
وتسعى روسيا إلى تشكيل تكتل دولي في مواجهة الكتلة الغربية المُنظَمة في إطار حلف "الناتو"، على نحو قد يُعمق هذا الاستقطاب الذي يبدو خطره أشد مما كان في مرحلة الحرب الباردة الدولية بين الكتلتين السوفياتية والأميركية. ويعود ازدياد خطره إلى غلبة المعادلات الصفرية في الصراعات بين طرفيه، وغياب التواصل المباشر الذي طالما أسهم في تخفيف حدة الحرب الباردة في الفترة بين ستينات القرن الماضي وثمانيناته.
لا توجد الآن، وربما في الأفق القريب، اتصالات مباشرة مُنظمة بين روسيا وحلف "الناتو"، بخلاف الحال في مرحلة الحرب الباردة التي أُجريت خلالها مفاوضات كثيرة، وأسفر بعضها عن أهم اتفاقات الحد من التسلح التي أُوقف العمل بها في العامين الأخيرين. كما أتاح التواصل المباشر- الغائب مثله الآن- تجنب حرب عالمية كانت وشيكة للغاية عام 1962 عندما اكتشف الأميركيون وجود قواعد صواريخ سوفياتية سرية في كوبا. فقد أمكن في أقل من أسبوعين نزع فتيل الأزمة، والاتفاق على حل وسط سحبت بموجبه موسكو صواريخها، وتعهدت واشنطن في إطاره بعدم القيام بأعمال عدائية ضد كوبا.
كما أسهمت الفاعلية النسبية للأمم المتحدة والقانون الدولي في احتواء كثير من النزاعات التي كان في نشوبها خطر كبير، وفي تسوية صراعات لم يكن خطرها أقل، وفي وقف إطلاق النار في حروب عدة أُشعلت في سياق لجوء القوتين الكبيرتين حينئذ إلى أسلوب الحرب بالوكالة لتجنب صدام مباشر بينهما.
بافتراض أن عملا عسكريا ما في حرب أوكرانيا أدى إلى توسع نطاق هذه الحرب، فربما يبقى التوسع المحتمل في حدود الضربات والضربات المضادة لحين التحرك لمنع تصاعدها
وكان في إمكان مجلس الأمن الدولي التدخل وإصدار قرارات لوقف إطلاق النار في حروب عدة بعضها في منطقتنا كما حدث في عامي 1967 و1973. صحيح أنه لم يقدر على ذلك في كل الحالات بسبب تبادل واشنطن وموسكو استخدام "الفيتو" كلٌ بمقدار. ولكنه لم يكن مشلولا أو مقيدا أو متفرجا في كثير من الحروب والصراعات، بخلاف الحال الآن كما هو واضح في حربي أوكرانيا وغزة.
ومن الطبيعي أن يسهم هذا التراجع الملموس في دور الأمم المتحدة ووكالاتها الأساسية، والاستهانة بدورها بل إهانتها وتحقيرها أحيانا، إلى جانب فقد الثقة في تطبيق القانون الدولي وفق معيار واحد، في تلبد الأجواء في سماء العالم التي يلوح فيها شبح حرب كبرى ولو من بعيد.
فرص الحرب الثالثة وحدودها المحتملة
لا يعني ازدياد الحديث عن حرب عالمية ثالثة أنها باتت ممكنة بعد أن كانت مستبعدة. ربما لم يبق ثمة يقين في أنها ما زالت مستحيلة. ومع ذلك فالأرجح أن ازدياد الحديث عنها، ومن ثم توسع الاهتمام بها، يؤدي إلى تقليل فرص اندلاعها أكثر مما يقود إلى عكسه.
وإذا اعتبرنا الحديث عنها بمثابة نبوءة، واعتمدنا على منهج تحليل التنبؤات السياسية والاستراتيجية بمعناها الواسع، قد نصل إلى أنها ربما تكون من نوع النبوءة المُحبِطة أو المُجهِضة لذاتها (Self Frustrating Prophecy)، وليست النبوءة المُحقِقة لذاتها أو ذاتية التحقق (Self Fulfilling Prophecy). فالنبوءة المحبِطة لذاتها هي التي يؤدي انتشارها إلى ازدياد الحذر بشأنها، واتخاذ إجراءات يُفترض أن تؤدي إلى تجنب التوقع الذي تنطوي عليه أو تقليل احتماله، وخاصة حين يتوافر قدر معقول من العقلانية والرشد السياسي.
وحتى بافتراض أن عملا عسكريا ما في حرب أوكرانيا أدى إلى تداعيات فُقدت السيطرة عليها فتوسع نطاق هذه الحرب، كأن تضرب موسكو مواقع في إحدى دول "الناتو" ردا على استهداف عمقها بواسطة صواريخ غربية، فربما يبقى التوسع المحتمل في حدود الضربات والضربات المضادة لوقتٍ يمكن من خلاله التحرك لمنع تصاعدها.
وفي هذه الحالة يُرجح عدم استخدام أسلحة نووية، وخاصة الاستراتيجية منها. فلا مصلحة لروسيا ولا أميركا ولا أي من دول "الناتو" في حرب يخسر الجميع فيها. ولهذا فإذا صح أن احتمال حرب عالمية جزئية أو محدودة لم يعد مستبعدا تماما في حالة خروج تطور ما في معارك أوكرانيا عن السيطرة، فالأرجح أن احتمال الحرب العالمية الشاملة والجامعة، أو ما يُطلق عليها "حرب نهاية العالم"، ليس واردا في أي مدى زمني منظور.