عين على الجنون

عين على الجنون

لو سافرت ليلا بالسيارة بين مدينة ومدينة فلا شك أن عينيك ستبذلان أعظم جهد يمكن أن تبذلاه للانتباه لما يحدث على الطريق، مسلطتين في السكون على عيون القطط التي تشِم جسد الأسفلت، فتبقيان بذلك أسيرتي مشهد ممل لا يحق لهما الحياد عنه ولا لثانية. فما بالك إذا علمت أنك – كأي إنسان – قد تصاب بالجنون في أي لحظة. صورة مرعبة، لكن هل الجنون سيء إلى هذا الحد بحيث يجب أن نخاف منه؟ أم أننا بحاجة إلى فهمه قبل كل شيء. الفهم – كما يقول سبينوزا – يحل كل المشكلات.

كثيرون لا يرون الجنون إلا مرضا، مجرد خلل في وظائف الدماغ. هذا اختزال مخلّ، وسنعرف أنه كذلك في كل مرة نصرخ "مجنون" عندما نسمع معزوفة لموزارت، أو عندما نطرب لبيت شعر قاله قيس في ليلى.

جنون العظمة نوع من أنواع الجنون، ويعرّف بأنه الشعور الكاذب بالقدرة، وقد يكون شعورا وهميا يخترع صاحبه حوادث خيالية تناسب شعوره فيتصور نفسه شيئا عظيما. السر في المفارقة هو أنه قد يكون عظيما بالفعل، كما هو حال كل العظماء الذين غيروا وجه التاريخ.

وقد يكون الجنون جنون اضطهاد يعيش صاحبه في عذاب حينما يتخيل الناس أعداء يسعون لإلحاق الضرر به، وهذا قد يكون لاعتلال نفسي، وقد يكون ضريبة لا بد أن يدفعها العبقري، لأنه حتما سيحاصر بالحسّاد الذين سيقللون شأنه.

يبدو أن الجنون كان له دور كبير لا يقل أهمية عن دور العقل نفسه، خصوصا عندما نتصور بشكل كافٍ ما يعنيه جنون العبقرية

وقد يكون الجنون دوريا غير ثابت، بحيث تتناوب المجنون حالتان من الاعتلال والتعافي والفرح والحزن. وهذا طبيعي، فحتى من يوصفون بصحة العقل، يتقلبون بين الحزن والفرح بشكل دوري، ولا مناص لهم من هذا.

وثمة جنون أخلاقي، أي فقدان الأخلاق المتواضع عليها، مع بقاء الإدراك في حالة الصحة. هذا النوع يُفقد القدرة على الشعور بالخير والشر والقدرة على التمييز بينهما. يبدو أن نيتشه وصل فعلا إلى هذه الحالة، إن نظرنا في نصوصه كما هي، دون نظر في الظروف التي نشأت فيها وبقية الاعتذارات التي نحاول أن نعتذر له بها.

أما ميشال فوكو فكان له رأي آخر. ولذلك تقدم بأطروحته للدكتوراه في عام 1961 بعنوان "الجنون واللاعقلانية: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، والتي عُرفت في نهاية المطاف باسم "تاريخ الجنون"، واشتهرت في العالم الناطق باللغة الإنكليزية بنسخة مختصرة بعنوان "الجنون والحضارة".هذا الكتاب ينطوي على دراسة علمية ذات أهمية فلسفية، إذ توصل فوكو في النهاية إلى أن الجنون شكل عنصرا سلبيا في عقل التنوير لما جرى استبعاده. أي أن استبعاد اللاعقلانية في حد ذاته، إلى جانب الاستبعاد الجسدي للمجنون، يشكل في واقع الأمر الجانب المظلم من الخط الفكري الذي قام على تعظيم العقلانية في العصر الحديث. ولهذا السبب، كان العنوان الرئيس الأصلي للعمل هو "الجنون واللاعقلانية" وفيه يزعم فوكو أن الجنون يمكن أن يتعافى من خلال تعظيم الفلاسفة والفنانين الذين يُعتَبَرون مجانين، مثل نيتشه وموزارت ونابليون، وهو التعافي الذي يعتقد فوكو أن أعمال هؤلاء الرجال تُنبئ به بالفعل. لا شك أبدا في أن نيتشه عاش حُرّا وأنه كان يكتب لكي يُشفى مما كان يعانيه من أمراض جسدية ونفسية.

ما الذي بنى الحضارات العظيمة هل هو العقل، أم الجنون؟ أم هما معا؟ أليست إرادة القوة هي البديل الذي خرج به نيتشه واعتاض به عن كل التاريخ الفكري الأوروبي والأخلاق المسيحية؟ مقررا بذلك ثورة أخلاقية كان لها كل الاعتبار في بداية القرن العشرين ونشوء ما بعد الحداثة كتيار فكري يتعارض بشكل قاطع مع العقلانية. يبدو أن الجنون كان له دور كبير لا يقل أهمية عن دور العقل نفسه، خصوصا عندما نتصور بشكل كافٍ ما يعنيه جنون العبقرية.

font change
مقالات ذات صلة