"غوستلايت"... عن الحق في الحزن والتداوي بشكسبيرhttps://www.majalla.com/node/322184/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%BA%D9%88%D8%B3%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%AA-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%A8%D8%B4%D9%83%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D8%B1
الألم في المجتمعات المعاصرة شخصي وخاص وغير قابل للتشارك، وعلى صاحبه أن يحمل صخرته وحيدا وأن يجتهد كذلك في إخفائها والتصرف كأنها غير موجودة في الأساس. وإذا انحنى المرء تحت ثقل ما لا يمكن احتماله أو فقد السيطرة على نفسه وخرج على حدود الانضباط العامة، اصبح مهددا بالنبذ الاجتماعي والطرد من شبكات التعليم والوظائف والعلاقات.
أبطال فيلم "غوستلايت" من إخراج أليكس تومبسون وكيلي أوسوليفان، التي كتبت كذلك السيناريو، يعانون من فقد ثقيل وغير قابل للتفاهم معه، ويجرّهم في كل لحظة إلى عالمه. نعاين منذ البداية آثارَه المحفورة على ملامح دان، عامل البناء (يؤدّي دوره كيث كوبفيرر)، وزوجته شارون (تارا مالين)، وابنته المراهقة ديزي (كاثرين ماي كوبفيرر)، والتي تسيطر على النظرة إلى العيش وتمثله. حداد مفتوح وغير منجز يخيم على الأجواء ويفجر القدرة على التعايش مع متطلبات الحياة اليومية بكل ما فيها من قسوة لا تعترف بالحق في الألم.
ظل الانتحار
لا يخبر "غوستلايت" (التعبير يعني حرفيا اللمبة التي تترك مضاءة في المسرح بعد إطفاء جميع الأضواء) السبب مباشرة بل يستعرض أحوال الشخصيات وآلية تصرفاتها المتشنجة لفترة زمنية غير قصيرة قبل أن يفجّر العنوان العريض المتمثل في مأساة ضربت عائلة عامل البناء دان إثر انتحار ابنه المراهق بعد علاقة حب مع إحدى زميلاته. وهذا الانتحار يضع العائلة في مواجهة ما لا يمكن إصلاحه وترميمه. تبدو شخصيات الفيلم منفصلة عن أي وجود وذاكرة خارج هذه اللحظة. يحتل الابن المنتحر مساحة الطيف غير المرئي والدائم الحضور.
كتلة صلبة من مستحيلات تتراكم كل يوم مع بروز نمط عيش يفرض على الناس تجاوز آلامهم
لا يظهر الفيلم ولا يعرض مشهد انتحاره، بل يبقيه معلقا كظل أسود يجتاح حيوات العائلة ويضعها في مواجهة مع كتلة صلبة من مستحيلات تتراكم كل يوم مع بروز نمط عيش يفرض على الناس تجاوز آلامهم والبقاء داخل دائرة الضبط الصارم للمؤسسات العامة التعليمية والمهنية وأنساق العلاقات الاجتماعية وبناء الصورة.
يحمل الأب، الذي يعمل في مجال البناء، ألمه في كل ملامحه. يمتلك وجهًا يشي بأن صاحبه يحاول الاختفاء. كل شيء فيه معتم وغائر كما أن حركته خلال ممارسة عمله تظهره مشدودا إلى الأسفل ومتجها إلى أسفلت الطريق الذي يعمل عليه وكأنه يشتهي أن يُدفن تحته. أما الزوجة والأم فتتحامل على حسرتها وتحاول السيطرة على الأمور وترميم العالم المتداعي وإصلاحه وخلق فرصة تسمح للحزن المكبوت والمتجمّد بأن يتدفق. تجد نفسها مجبرة على إدارة كل شيء ومحاولة تفكيك قسوته وشراسته وجعله قابلا للاحتمال والفهم. ما ترغب به، هو الحق في الحزن، وهو ما يصر زوجها والمجتمع على حرمانها منه.
الابنة المراهقة تمتلك موهبة تمثيلية وغنائية تصطدم بجدار الدراما العائلية القاسي باستمرار. تواجه الشعور الدائم بالدونية، بالوقاحة والعدوانية التي تطاول الوالد وتجرحه وتعمل في الآن نفسه على تحدي الأم والمجتمع واعتماد الفظاظة والعنف كنمط لتوكيد الذات مما يؤدّي إلى طردها من المدرسة. ويكشف العلاج النفسي أن سلوكها ليس سوى رد فعل على عدم السماح لها بالحزن، مما يجعلها حزينة على الدوام.
الموت الرمزي
يتمثّل الحدث المفجر للسياقات في اللقاء بريتا، الممثلة المحترفة السابقة (دولي دي ليون)، التي تقيم في الحي نفسه وتدير ورشات تدريبية على التمثيل مع مجموعة من الأشخاص العاديين الذين لا يجيدون التمثيل. فتدعو ريتا دان للمشاركة في مسرحية ولقاء المجموعة التي تشارك في هذا النشاط. يبدو دان غير متحمس، لكنه سرعان ما ينخرط في الجو المسرحي ويجد فيه فرصة للتفريج عن نفسه.
في بداية تماسه مع هذا العالم الجديد، يصر على التمسك بحزنه وغضبه ويعتبر أن التخلي عنهما بمثابة خيانة للابن المنتحر وذكراه. يتصرف كمجرم هارب ويخفي الأمر عن عائلته، لكنّ التغير في سلوكه يظهر عليه ويدفع الابنة إلى مراقبته، فتكتشف ما يقوم به وتتعرف الى ريتا التي تنجح في إقناعها بالمشاركة في المسرحية.
وفي مشهد لافت، وبعد مرور دان بأدوار مختلفة في مسرحية "روميو وجولييت" التي تقرر ريتا دفع المجموعة إلى التمرن عليها، يستقر الأمر على منحه دور روميو. وهنا تخرج إلى النور كل عقده والانفعالات التي يعاني منها، الى درجة أنه يحاول تغيير النهاية المعروفة التي يموت فيها الأبطال. لا يستطيع التعامل مع فكرة الموت حتى إذا كان ممسرحا ورمزيا، وحين يُقال له إنه من غير الممكن تغيير نهاية مسرحية شكسبير، يكون رده غير المتوقع: "تبا لشكسبير".
هذا التحدّي بين دان وشكسبير يمنح القصة زخما لافتا، فذلك الموت المأسوي الرمزي ليس سوى المدخل الأساس للشفاء والتداوي. فالأب يتقمص دور ابنه العاشق ويموت عنه رمزيا، فيصير قادرا على تمثل موته والتفاهم معه والعودة إلى الواقع ومحاولة التعايش معه.
معاداة المشاعر
لم يكن الأب قبل المسرحية يمتلك كلامًا وقدرة على التعبير، وكان بلا صوت، وكان انتحار الابن ينطق من خلاله. فكلامه شاحب ومتوتر وغاضب، لكن لغة شكسبير المنمقة العالية تمنحه القدرة على التعبير واكتشاف الذات واكتشاف الحقيقة التي تقول إنه كان أسير افتراضات عامة وقوانين اجتماعية تتبنى مفهوما خاطئًا للرعاية الأبوية وتربطها بالرعب من المشاعر.
يتقمّص الأب دور ابنه العاشق ويموت عنه رمزيا، فيصير قادرا على تمثل موته والتفاهم معه
يكتشف أن ابنه انتحر ليس بسبب العاطفة الفائضة، بل بسبب الحرمان من التعبير عن المشاعر. شكسبير يجعله قادرا على الاعتراف بأن حمايته المفرطة لابنه، لم تنبع منه بل من قوانين شائعة ومنتشرة ترى في العواطف خطرا.
ينبّه الفيلم في رسالته الأعمق إلى أن ذلك العداء للعواطف الذي يسم العيش المديني الحديث جعلنا كائنات آيلة للانتحار، إذ أن العواطف ليست ترفا يمكن تفاديه وتجنبه، لكنها المجال الذي يشكلنا ويخلقنا ويجعلنا قادرين على العيش والاستمرار ويجب تنظيمها وإدارتها وليس تجنبها.
يعرض الفيلم إشارات ساخرة عديدة لذلك الخوف من المشاعر ومحاولة تنظيمها وتقعيدها. خلال التدرب على المسرحية، يتساءل أحد المشاركين عن غياب منسق الألفة، وهو شخص مهمته التحقق من المشاعر والتدريب عليها، ونظرا إلى غياب الميزانية فإن أحد المشاركين يؤدّي هذا الدور. نشهد سياقات كاريكاتورية تتضمن سخرية سوداء، كأن يبدأ دان في التمرن على الألفة مع ريتا بأن يضع يده على كتفها وتسأل المدربة: "هل أنت مرتاح؟ هل يمكن أن تبادلك بالمثل؟ كل هذا يكشف عن صعوبة التعامل مع المشاعر في مجتمعات ترى في القسوة والعزلة وكبت العواطف مفاتيح ضرورية للتطور المهني والنمو الشخصي.
وفي النهاية، فإن عرض المسرحية الذي ساهمت الزوجة في إنجاحه عبر تأمين مكان للعرض في المدرسة التي تعمل فيها، يسمح لذلك المكبوت بأن يخرج وينفجر وينتقم، خالقا مسار العودة إلى المنزل حيث تضاء الأنوار ولا تختفي الأزمات والمشاكل، ولكنها تبدو واضحة وقابلة للعلاج.
ألعاب فنية
نجح الفيلم في انتزاع العلامة الكاملة على موقع "روتن توماتوس" لينضم إلى نخبة من الأفلام التي تحظى بإجماع النقاد حولها، والتي غالبا ما يكون الاهتمام الجماهيري بها متناقضا مع آرائهم. من النادر تحقق الإجماع النقدي والجماهيري حول فيلم، ولكن "غوستلايت" بحساسيته وواقعيته نجح في تحقيق تلك المعادلة، إذ أن نسبة الإقبال الجماهيري عليه والآراء الإيجابية حوله وصلت إلى 94% وفق الموقع نفسه الذي يعتمد على ملاحقة الآراء النقدية والشعبية في الوقت نفسه. وكذلك نال تقييما عاليا في المواقع التي تعتمد على الآراء الشعبية فقط مثل موقع "IMDb".
العثور على الصوت وامتلاكه ليس فعل نجاة فقط، ولكنه يواجه تفكك المعنى الذي تبثه القسوة ولا إنسانيتها
الفيلم يعد طويلا نسبيا (115 دقيقة)، ولا ينتسب إلى عوالم الإثارة والأكشن ولا يضم نجوما معروفين. سبب نجاحه يعود إلى موضوعه وطريقة تقديمها في إطار يبرز التناغم بين خيارات الإخراج والسيناريو وأداء الممثلين. أما الحركة البطيئة التي تطبع بدايته والانكسار الذي يسيطر على الشخصيات، فتعكسه إضاءة خافتة وألوان كئيبة وطريقة كلام خافتة ومتشنجة ونظرات متجنبة وحركة جسد دفاعية ومنطوية.
ومع تقدم الأحداث، يتحرر السيناريو وتتحرر الإضاءة والأداء، فيتم العبور من ظلام الحداد وانعدام العزاء إلى الثقة والتحدي ومواجهة الناس في المسرح، ومن الهزيمة إلى البطولة. وبدا لافتا أن الإخراج لا يكتفي باللعب بالإضاءة واللقطات القريبة والبعيدة، بل يبدو التحول بارزا في نبرة الصوت. ويشكل الاهتمام بالصوت قيمة لافتة في منطق بناء الفيلم، إذ أن عامل الصوت بات في الفترة الأخيرة مهملا في التمثيل ويستعاض عنه بالشكل والحركة.
التركيز على الصوت للتعبير عن عملية الشفاء باللغة الشكسبيرية الواضحة والواثقة، يشكل إحدى علامات الفيلم الخاصة والفارقة. عندما تعثر الشخصيات على صوتها تستطيع الإمساك بمصيرها ومواجهة الألم في عالم يترك الناس تختنق بمآسيها وعزلتها.
العثور على الصوت وامتلاكه ليس فعل نجاة فقط، ولكنه يواجه تفكك المعنى الذي تبثه القسوة ولا إنسانيتها، ليس بالصراخ والغضب الذي ينسجم معها ويتلاءم مع منطقها، بل بالكلام الواضح الذي يولد معاني تستحق الدفاع عنها.