"تلات ستات"... سيرة من ليالي القاهرة وعوالم البغاء المظلمة

توثيق صحافي لمحمد العريان وعمر سعيد

shutterstock
shutterstock
القاهرة ليلا

"تلات ستات"... سيرة من ليالي القاهرة وعوالم البغاء المظلمة

ثمة موضوعات من العسير الحديث عنها، ليس فقط لحساسيتها وارتباطها بالمسكوت عنه في المجتمعات العربية، بل أيضا لأن من حولها بُني الكثير من الأحكام والنظريات والأفكار الجاهزة. البغاء هو بالتأكيد، أحد هذه الموضوعات. وهو عالم يرتبط بالنساء أكثر من الرجال، في الذهنية الشعبية، على الرغم من أنه لم يكن ليوجد هذا العالم لولا سلطة الرجال.

وقليلة هي الكُتب العربية التي تناولت الموضوع مباشرة، من وجهات نظر النساء، وكانت طُرقها بطبيعة الحال، محفوفة بالأخطار، وينطبق الأمر نفسه على الأفلام. في حالات أخرى، أو بالأحرى لغات أخرى، نعثر على كتابة حول البغاء، من منظور ممارِساته. كما هي حالة الثقافة الفرنسية على سبيل المثل، التي جاهرت فيها كاتبات وأديبات، صرن لاحقا شهيرات، بالاعتراف بممارستهن هذا العمل، لفترة من الزمن، وعمدن في هذه الكتابة إلى وصف وتحليل الظروف الاجتماعية والثقافية التي تمهِّد له وتحيط به. من بين هؤلاء، نعثر اليوم على اسم فيرجيني ديبانت التي تحتل أعمالها قائمة الأعلى مبيعا في المكتبات الفرنسية، وقد تُرجِم إلى العربية كتابها الأشهر "نظرية كينغ كونغ"، على يد المترجم التونسي وليد سليمان، وبمبادرة من دار نشر "كولت" المغربية العام الفائت، بعدما تُرجم إلى العديد من لغات، وظل لزمن طويل بعيدا عن القارئ العربي.

حاولت ديبانت في كتابها هذا، تأمُّل تجربتها الشخصية بعد مرور سنوات، وتوقفت عند اللحظة التي سهّلت لها لاحقا هذا العمل، وهي لحظة تعرضها للاغتصاب وهي في السابعة عشرة، بينما كانت ترتحل مع صديقتها بين المدن الفرنسية، على طريقة الأوتوستوب، في محاولة للاستمتاع بالشباب والحرية واكتشاف البلاد. سعت ديبانت أيضا إلى تحليل المواقف المتضاربة للسلطة بمستوياتها، من هذا النوع من الأعمال، وربطت هذا التضارب بالتناقض الذهني الحاد في صورة المرأة بين القديسة والعاهرة، الذي يتضح من نقد ديبانت أنه ليس حكرا على الذهنية العربية.

كل هذا مع التغاضي عن مساءلة النظم الاجتماعية التي جعلت من هذه المهنة، لا فقط أقدم مهن النساء، لكن أيضا أسهلها وأهونها ظرفا وعاقبة

ما يلفت في عمل ديبانت، وفي عمل كاتبات فرنسيات شهيرات غيرها، انتهجن النهج نفسه حياتيا وكتابيا منهن على سبيل المثل كلويه ديلوم وإيما بيكر، هو هذا الاحتياج اللاحق إلى الكتابة بهدف ما يُمكن وصفه بتصفية الحسابات مع مرحلة صعبة من الحياة، انتهت بالضوء في نهاية النفق، المتمثل في القدرة عن التخلي عن هذا العمل، ونجاح النتاج الأدبي في توصيل صوت المرأة العاملة في مهنة لا تكف المجتمعات عن تسميتها بالمهنة الأقدم في التاريخ، ومع ذلك تزدري العاملات فيها، وتحيطهن بالأحكام الأخلاقية التي تصنع منهن في النهاية مجازا عن الشر الأعظم الذي يمكن أن يمسّ الإناث. كل هذا، مع التغاضي عن مساءلة النظم الاجتماعية التي جعلت من هذه المهنة، لا فقط أقدم مهن النساء، لكن أيضا أسهلها وأهونها ظرفا وعاقبة.

الكاتبة الفرنسية فرجيني ديبانت

على المستوى العربي تأتي رواية نوال السعداوي "امرأة عند نقطة الصفر"، ضمن أهم الأعمال الأدبية التي منحت هذه المرأة – إن جاز لوهلة اختزالها في واحدة – صوتا وجعلتها تحكي حكايتها. اقتفت السعداوي أثر شخصية فردوس، إذ تقتل أحد الرجال المسيئين إليها، بعد طابور طويل من الإساءات والإيذاء الجنسي والعائلي، التي تلقي بها في النهاية إلى طريق البغاء. الرواية مكتوبة بطريقة شاعرية، وهي أقرب إلى البحث الفلسفي، حيث لا تكتفي نوال السعداوي بالتعاطف مع فردوس التي يوصلها قدرها في النهاية إلى حبل المشنقة، لتكون كبش فداء الجميع، لكنها أيضا تتحرّى سؤال الحقيقة في مجتمعات تخلط عن قصد بين المظهر والجوهر، وتفضِّل الأول وإن كان خادعا، على الثاني وإن كان الحقيقة المعيشة. تُرجمت الرواية إلى اللغة الفرنسية بيد آسيا طرابلسي، وقدّمتها إلى القارئ الفرنسي الكاتبة الكبيرة آسيا جبار، للمرة الأولى عام 2007.  

غلاف كتاب "امرأة عند نقطة الصفر" لنوال السعداوي

أما أحدث الأعمال السينمائية التي يُمكن استحضارها في هذا الصدد، فهو فيلم "الرحلة 404"، الذي عُرِض في 2024 وحقق نجاحا لافتا، من سيناريو محمد رجاء وإخراج هاني خليفة، وبطولة منى زكي. وفيه خاضت البطلة غادة رحلة خارجية تتزامن مع رحلتها الداخلية للحصول على الغفران بمستوياته الدينية والاجتماعية والنفسية.

"تلات ستات" محاولة في الزمن الصعب

وأخيرا صدر في القاهرة، عن "دار مرايا" كتاب "تلات ستات: سيرة من ليالي القاهرة"، ولقي اهتماما لافتا، وهو من تأليف محمد العريان وعمر سعيد. في المقدمة يشرح الكاتبان خلفيات مهمة لعملهما، فيقولان إن رحلتهما مع هذا الكتاب بدأت منذ سنوات عدة "مع العمل على تقرير صحافي، وفيلم تسجيلي من إنتاج دار المرايا، لمعايشة بعض من تفاصيل حياة العاملات في الجنس التجاري في مصر". ويبرران قرارهما بتغيير الدفة من السينما، والصحافة إلى شاطئ الكتب: "ومع أن الفرصة التي أُتيحت لنا كانت فرصة كبيرة، سواء بالاشتباك الصحافي أو بالإنتاج السينمائي، غير أننا رأينا في موضوعنا فرصة للعمل على مشروع كتابة مختلف، في الأساس منه نمارس عملا صحافيا صريحا، لكن في الإخراج والصورة النهائية فإنه يتحرر من بعض القواعد التي تُرسيها الصحافة بشكلها التقليدي، أو تلك التي تفرضها أساليب السرد المرئي".

وإننا على أي حال، نستطيع أن نتخيَّل كم يصعب إنتاج فيلم تسجيلي كهذا في اللحظة الحالية، ليس فقط لما يُمكن توقعه من صدمة قطاعات معينة من المشاهدين مهووسة بصورة غير واقعية بما يطلق عليه "قيم الأسرة المصرية"، لكن أيضا لأن طبيعة الشهادات التي يقدمها كتاب "تلات ستات" تتوقف عند التفاصيل، وهذه قوتها الأساس. تفاصيل اللقاءات، وظروفها الصعبة، وأسئلة النساء في هذه الأوقات المعينة، وشعورهن لاحقا وأسئلتهن ومرارتهن، وحتى مسراتهن. أي إن الكتابة حررت بصورة ما أصوات ثلاث نساء، ما كان يمكن للسينما أو للصحافة تحريرها بهذه الصراحة، ومن دون الاضطرار إلى إصدار أحكام أخلاقية ما، تقدم رشوة ما للمشاهدين تضمن ألا يثوروا في وجه العمل وصُنّاعه، وفي حالة الصحافة ألا تُغضِب القراء.

طبيعة الشهادات التي يقدمها كتاب "تلات ستات" تتوقف عند التفاصيل، وهذه قوتها الأساس

والواقع أن الفضاء العام الذي يشهد في السنوات الأخيرة تشددا في ما يتعلق بالنظرة إلى أجساد النساء وسلوكياتهن في مصر، وتحويل اللوم عليهن في حالات قضايا التحرش، أو الأسوأ في حالة الجرائم المتكررة لقتل النساء، كجريمة قتل نيرة أشرف الطالبة الجامعية، وتعاطف قطاعات من المجتمع مع الجاني الذي زعم أنه كان يحبها، هو الفضاء نفسه الذي يحتضن منذ عقدٍ وأكثر ظهورا لكتابات متحررة في اللغة والموضوع، ولشهادات شخصية من كل نوع مهمومة بالتعبير عن الذات بحرية، وخلق حرية للذات ولو عابرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والمحصلة أن هناك شعورا عاما بأن كل ما حدث، وأيا ما حدث، يمكن كتابته، وباستخدام اللغة المحكية في معظم الأحيان بشتائمها وأوصافها السائلة والحيوية. وكأن ثمة أدبا موازيا على وسائل التواصل الاجتماعي، للأدب المكتوب والمطبوع في صورة مؤلفات وكتب.

غلاف كتاب "تلات ستات"

يوفِّق محمد العريان وعمر سعيد، بين النوعين من الأدب في "تلات ستات". يختاران لغة بين الفصحى الأنيقة والمحكية الحيَّة والصادمة في الكثير من الأحيان. يخبراننا بصورة ما أن هذه الشهادات التي يضمها الكتاب هي التي ألهمتهما طريق كتابته: "هذه كتابة ليست مشغولة بتصنيف نفسها، وكتابنا ليس أدبا يصور خيالا ممزوجا بالواقع". يحددان بصورة أدق: "اتفقنا أن تكون كتابتنا في سياق السيرة الذاتية الأدبية، أو السيرة الأدبية، تلتزم الحقيقة كمعيار، لكن أيضا تمد خطوط الأدب بسرد فيه بعض الخيال الملتزم بأمانة الحقائق".

سمرا وعفاف وانشراح

 بينما يكتب محمد العريان الحكاية الأولى، حكاية سمرا ويعنونها "قتلت نفسي مرتين"، وحكاية انشراح الثالثة بعنوان "أنا جارية"، يكتب محمد سعيد الحكاية الثانية لعفاف بعنوان "الغربة والليل عيونك". ومع اختلاف الحكايات، وتنوع الخلفيات التعليمية والاجتماعية والفكرية التي تأتي منها سمرا أو عفاف أو انشراح – هذه بالطبع ليست الأسماء الحقيقية – على سبيل المثل تأتي سمرا من الصعيد هاربة بعد زواج ابن عمها الذي أحبته بغيرها في اللحظة الأخيرة إلى القاهرة وتفاجأ هناك بعوالم جديدة وقاسية، إلى حدّ أنها لم تتعرف على الفور الى طبيعة عمل القوادة التي تستضيفها أو المصير الذي تخيطه لها، تقول سمرا: "أنا الغريبة دائما وسأظل، لن يقبلوني ولن يُنجيني حتى الحب". على العكس، كانت عفاف ابنة المدينة، إنما الأحياء المهمشة منها، وبسبب الفقر الحاد، لم تتلق الطفلة تعليما، ومع أنها تدربت على الخياطة موهبتها وشغفها لم يمنعها ذلك من العمل في البغاء، حين تقلبت الأحوال بها، تقول عفاف: "كان كل انتباهي ينصب على الملابس، تحديدا ملابس شيريهان، تلبس فساتين غريبة، بعضها ذهبي وبعضها فضي، فيها ألوان فاقعة ومتباينة جدا، وكلها فيها ترتر. لا يزال الترتر يسحرني حتى اليوم". أما انشراح، فهي الوحيدة التي تلقت تعليما جامعيا، وعملت موظفة، وكانت بدورها ابنة المدينة، ثم بطريقة أو أخرى، وجدت قصتها طريقا إلى هذا الكتاب، وتلخص انشراح أزمتها الوجودية في البحث عن الحب في الأماكن الخاطئة، طارحة سؤالا بسيطا للغاية: "هل أنا مثيرة أم رخيصة وسهلة؟".

محمد العريان

مع كل تلك الاختلافات، تشترك النساء الثلاث في الشعور بالعجز والاستلاب أمام قوى اجتماعية أخرى، وربما تلك القوى ليست على هذه الدرجة أصلا من القوة، لكنها تتضخم مع الضعف وانعدام الأفق. مع سمرا ثمة العائلة التي تستغل أزمة الأب المادية، وتزدري سمرا إلى حد تخريب زفافها. ومع عفاف هناك البيت المعتدي، الذي تهرب البنت من إساءاته إلى الشارع الذي لا يرحمها. أما انشراح، فتلعب الأم دور الشريرة بجلستها المستريحة الرتيبة أمام التلفزيون، لكن بتلاعبها المرير بحياة ابنتها، لاستغلالها أو الانتقام منها.

"تلات ستات" هو كتاب أليم، لا فقط لقسوة التجارب التي ترويها فيه النساء، لكن أيضا لهذه الفكرة عن أن النساء لم يمتلكن حتى اللغة الكافية لسرد حكاياتهن

انتهاك

وفي الحكايات الثلاث، وقبل حدوث التحول الدرامي، كانت تتعرض الأنثى للانتهاك، بالضبط كما أشارت فيرجيني ديبانت. بالختان الانتقامي في الطفولة في حالة انشراح، في كشف العذرية المسيء والمجاني في حالة سمرا، وفي الإساءة الجنسية من أفراد الأسرة في حالة عفاف.

عمر سعيد

صحيح أن السؤال الذي يتردد على البال في بداية الكتاب هو، لمَ يكتب هذه الحكايات اثنان من الرجال، وهو السؤال الذي يطرحه أيضا الكاتبان في المقدمة: "أليس في ذلك تغول في دورنا كصحافيين في النهاية؟ افتراء رجولي نسطو فيه على قصة نساء خصوصا أننا سننقل أحاديث عن مشاعر وجسد وتجارب من المستحيل الشعور بما تجلبه إلا لمن عاشها؟". إلا أن الإجابة المحتملة لهذا السؤال، ربما تكون في الخلاصة التي يمكن الخروج بها من قراءة "تلات ستات"، أن محمد العريان وعمر سعيد، اجتهدا في لعب دور الوسيط، وفي تنحية ذاتيهما، بما يليق بالمترجِم النبيل مثلا، إلى حد جعلنا نسمع بوضوح صوت أولئك النساء. يقولان: "ونحن في النهاية صحافيون، عملنا وجودته يقومان على تمثيل حكايات الناس، بأكبر أمانة ممكنة، دون إسقاطات ولا بلاغة تضيع الحقيقة، مع ضرورة الحفاظ على الصوت الأصلي: صوت العاملات".

"تلات ستات" هو كتاب أليم، لا فقط لقسوة التجارب التي ترويها فيه النساء، لكن أيضا لهذه الفكرة عن أن النساء لم يمتلكن حتى اللغة الكافية لسرد حكاياتهن، ولا الوعي الكافي لصياغة سردية شخصية عن سيرة الحياة بما كان ليسمح ربما بشيء من تغيير المصير، كما احتجنا نحن إلى وسطاء لسماعهن، على الرغم من أننا نمر بهن يوميا ولا نراهن. تقول الكاتبة الفرنسية كلويه ديلوم: "من يملك اللغة، يملك السلطة"، وتقول المصرية نوال السعداوي: "إن حياة المرأة في جميع الأحوال سيئة، لكن حياة المومس قد تكون أقل سوءا". 

font change

مقالات ذات صلة