حتى لو تعب كل الناس وكل العالم من الحرب في قطاع غزة والمنطقة وأرادوا انتهاءها فإنها لن تتوقف وستستمر، لأن حسابات الحرب تجاوزت منذ البداية حسابات الناس وأهدافهم، وبالأخص الفلسطينيين الذين هم ضحاياها الأصليون. وكأن الحرب تقاطع حسابات متناقضة وكأنها خاتمة مسارات لا تؤدي إلا إلى الحرب، ولذلك ليس في حسابات المتحاربين الآن بديل من الحرب إلا الحرب نفسها.
ما عاد ينفع توقع انتهاء الحرب وضرب مواعيد لانتهائها قبل الانتخابات الأميركية أو بعدها، إذا وصل دونالد ترمب أو كامالا هاريس إلى البيت الأبيض... كل ذلك وهم، وليس فيه شيء من الواقعية ما دامت الحرب قد تحوّلت إلى مصلحة سياسية واستراتيجية وشخصية ليس لبنيامين نتنياهو وحسب بل لجميع أطرافها. فإذا كان "بيبي" واليمين الإسرائيلي ينظران إلى الحرب كفرصة لتقويض أي بنيان سياسي واجتماعي للفلسطينيين "من النهر إلى البحر"، فإن "محور المقاومة" يتطلع إلى أن يكون اليوم التالي للحرب فرصة ذهبية لتثبيت نفوذه في المنطقة، وكل ذلك لا علاقة له من قريب أو بعيد بـ"تحرير فلسطين". فما دامت هناك قواعد اشتباك بين "محور المقاومة" وإسرائيل، فهذا وحده دليل قاطع على طبيعة "المعركة" بين الطرفين حتى الآن، أي بوصف الحرب ضرورة وجودية لكلا الطرفين، اليمين الإسرائيلي لأنها أداة لتحصيل "الشرعية" من خلال ترويع الفلسطينيين وتهجيرهم والتنكيل بهم لتقويض أي مشروع سياسي حقيقي لهم، أي لتقويض أي مشروع للتسوية والسلام، و"محور المقاومة" لأن الحرب أيضا أداة للاستحصال على "شرعية" من باب الدفاع عن "القضية المركزية" لكنها "شرعية" لا تصرف إلا في ساحات النفوذ في المنطقة، داخل البلدان المنهارة والمفككة اجتماعيا وسياسيا، والتي كان انهيارها وتفككها من النتائج العملية لمشروع الهيمنة الذي يحمله هذا المحور والتي تقوده دولة من خارج نسيج المنطقة العربية ولكنّ لها أطماعا تاريخية فيها.
وهذا يوجب إعادة النظر في مقاربة "القضية المركزية" لناحية كيفية حماية الفلسطينيين من العدوانية والأطماع الإسرائيلية ولناحية أنه يستحيل الفصل بين سياسات "محور المقاومة" تجاه هذه القضية وبين أجندته التوسعية في المنطقة. وإذا كان من "البديهي" أن لا تكترث إسرائيل لأعداد الضحايا الفلسطينيين ولخسائرهم المادية ولحياتهم ومستقبلهم إلا في حدود نقمة العالم عليها، أي إن تقليص بطشها بالفلسطينيين لا يتحول واقعا إلا عندما تكون له فائدة سياسية في علاقة إسرائيل بالعالم، ولا تحركه أي دوافع إنسانية وتحديدا من قبل اليمين الإسرائيلي. وفي المقابل فإن خوض "محور المقاومة" صراعه مع إسرائيل، ضمن قواعد الاشتباك بينما لا توجد بين إسرائيل والفلسطينيين أي قواعد اشتباك، لا يمكن مقاربته إلا من كونه ينطوي على استعداد ضمني من قبل "المحور" للتضحية بالفلسطينيين، أقله من ناحية بناء إسرائيل حساباتها على هذا الأساس، أي إنها تزيد في عدوانيتها تجاه الفلسطينيين ما دامت مطمئنة إلى "ضوابط" المعركة مع "المحور". وإلا لكان "المحور" قد خاض الصراع بوتيرة واحدة لا بوتيرتين، واحدة في غزة وأخرى في "جبهات الإسناد"، وهو ما يجعل الفلسطينيين الحلقة الأضعف في الصراع، وما يجعلهم يدفعون بالتالي الكلفة الأعلى له من دون أن يكونوا قد شاءوا ذلك أو أن يكونوا قد استعدوا للحرب وأرادوها في هذا التوقيت تحديدا.