في الأيام القليلة الماضية، احتدم الخلاف بين موسكو وطهران حول ممر زنغزور، بعدما أعلنت روسيا أنها تدعم حق جمهورية آذربيجان في تفعيل الممر، الذي-إذا تم- سوف يربط جمهورية آذربيجان بأرمينيا ثم بإقليم نخجوان (نخيجيفان) التركي الآذري وصولا إلى تركيا وبالعكس، على الرغم من أن روسيا لم تؤيد تفعيله سابقا، لاعتقادها أنه في حال جمع أوصال المنطقة، سوف يشكل تهديدا استراتيجيا وأمنيا لها، لأنه سيربط تركيا العضو في حلف "الناتو" ببحر قزوين وآسيا الوسطى. لكن التطورات السياسية والعسكرية نتيجة حرب أوكرانيا غيرت المعادلة.
وقد أدت الحرب المستعرة منذ أكثر من سنتين بين روسيا وأوكرانيا إضافة إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، إلى إعاقة حركة الشحن من روسيا إلى أوروبا، لذلك زاد اهتمام روسيا بطرق النقل البرية، ومنها ممر زنغزور بطبيعة الحال. وتتوقع روسيا أن يحقق لها الممر في حال تفعيله، فوائد اقتصادية كبيرة، كما أنه سوف يعيد إحياء طرق التجارة التقليدية التي تربط آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وينعش اقتصاد دول المنطقة ويزيد حجم تبادلاتها التجارية.
ورغم أن إيران واحدة من الدول المعنية بالممر الذي يقع على حدودها الشمالية فإنها وجدت نفسها خارج المعادلة التي باركتها موسكو، وأعلنت وزارة خارجيتها أن الممر خط أحمر ولا يمكن لأحد تجاوزه، أي تجاوزها هي، فهي تدرك أن تفعيل الممر سوف يؤدي إلى تغيير ميزان القوى على حسابها وحدها، وسوف يمنح آذربيجان القدرة على الوصول من دون عوائق إلى جمهورية نخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي عبر مقاطعة سيونيك الأرمنية، وسيؤدي هذا إلى قطع الحدود بين أرمينيا وإيران.
ولممر زنغزور أهمية جيوسياسية واقتصادية بالنسبة لإيران، وأي تغيير في الجغرافيا السياسية سوف يؤثر بشكل مباشر على مصالحها الوطنية، إذ يسمح الممر لإيران بالوصول إلى دول الشمال: جورجيا وروسيا ودول أوروبية أخرى عبر أرمينيا، وتفعيله يسد الطريق عليها ويعزلها. وفي الوقت نفسه، سوف يمنح روسيا سيطرة أمنية مطلقة على منطقة جنوب القوقاز، لذلك ترفضه طهران بشدة، وبحسب الخبرات السياسية لدول المنطقة، فإن من يسيطر على ممر زنغزور ينقل السلطة إلى عاصمته.
الضغوط التي سببتها الحرب مع أوكرانيا فعلت التحالف بين باكو وموسكو ورفعته إلى مستويات استراتيجية، في حين ظل التحالف أو العلاقة بين موسكو وطهران متأرجحة، هي بالأساس علاقة غير متكافئة، لأن موسكو تنظر إلى طهران كلاعب رديف وليس شريكا حقيقيا. وقضية زنغزور دليل على أنها تتلاعب بها في الوقت الضائع، حتى أرمينيا صديقة إيران الوفية، غيرت موقفها مؤخرا، فقدمت مصالحها الخاصة على الصداقة. وما دفعها إلى تغيير موقفها السابق، هو رفض "الناتو" عضويتها وعدم تدخله الحاسم في حرب كاراباخ الأخيرة، لذلك أعلنت انضمامها فورا إلى الترتيبات الجيوسياسية التي نسقتها موسكو.
وفي النهاية، تثق روسيا بأنها تملك أوراقا تجعل إيران مجبرة على القبول بتفعيل ممر زنغزور، مستندة إلى ما تعانيه من عزلة دولية نتيجة العقوبات الدولية على خلفية ملفها النووي ونشاطها الميليشياوي في منطقة الشرق الأوسط، وتعتقد أن ليس لحليفتها خيارا آخر سوى الخضوع، وقبول التغييرات الجيوسياسية الجديدة، وهي واثقة من قدرتها على إقناعها بهذه التغييرات، بالرضا أو بالإكراه.
تفعيل الممر يسد الطريق. وفي الوقت نفسه، سوف يمنح روسيا سيطرة أمنية مطلقة على منطقة جنوب القوقاز
أما الواقع فيقول إن روسيا ليست اللاعب الوحيد في هذه الجهة من القوقاز، الولايات المتحدة تملك دورا تنسيقيا فيها، فقد استطاعت فرض السلام بين باكو ويريفان بعد حرب كاراباخ الأخيرة، كما أن تركيا لها نفوذ كبير في باكو، وهذا يعني أن موسكو لن تتمتع بسيطرة أحادية على ممر زنغزور، وستتقاسم السيطرة مع تركيا وإن ليس بالتساوي. وفي كل الأحوال ستكون إيران هي الخاسرة الوحيدة في هذه القضية، إذ سوف تخسر أحد أهم نقاطها الاستراتيجية في القوقاز، وحتى لو اعترضت وعاتبت وهددت روسيا، لن يكون لتصعيدها الكلامي أي تأثير على مجريات الحدث، لأنها في هذه المنطقة تحديدا لا تملك موقعا تفاوضيا قويا، بينما تتوزع أدوات القوة بين روسيا وجاراتها الثلاث آذربيجان وأرمينيا وتركيا.
المواقف الدبلوماسية والتصريحات السياسية لا تغير الخرائط الجغرافية ولا السياسية، الإجراءات العسكرية وحدها هي التي تفعل، وهذا مكلف جدا وخطير على النظام الإيراني.