حلمي التوني رسّام الحكايات المصرية

خيال تصويري يكمل خيال النص

facebook
facebook
حلمي التوني بجانب إحدى لوحاته

حلمي التوني رسّام الحكايات المصرية

بسيط مثل خطوطه الحادة والملساء التي تذكر بالمحفورات الخشبية، ومرهف مثل تلك الموسيقى الشعبية التي تتخلل زخارفه. ذلك هو الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني الذي توفي صباح السبت الماضي عن عمر ناهز تسعين عاما.

يعطينا عنوان أحد معارضه وهو "المغنى حياة الروح" صورة عنه، هي احدى صور الرسام الذي يهمه أن يتبع بخطاه خطى الفنان الشعبي. وبسبب تنوع الفنون التي مارسها فلا شيء منه يمكنه أن يكون كل شي فيه. فهو متعدد الامكنة المتخيلة التي ينفق فيها ساعات عمله اليومي.

تجده مرة رسام أطفال وله لغة تفيض بالبساطة والخيال، ومرة أخرى تجده رسام غلف لكتب روائية، وله في ذلك المجال شخصيته الأسلوبية المتميزة. كما عُرف عنه شغفه بتصميم الكتب والمجلات. أما رسومه الضاحكة فإنه يطلق عليها تسمية "تعليقات" وكأنه يفسّر كثرة الكلام فيها.

مؤلف كتب هو رسامها؛ تتوزع بين الحكايات المتخيلة والقصص الديني والأمثال الشعبية، إضافة إلى اهتمامه بتوثيق التقاليد والمراسم والاحتفالات التي تتمحور حولها حياة المصريين.

في رسوم التوني الكثير من الهواء المصري الذي يتخلل اللغة الدارجة ويلبث ناعما تحت الثياب ويجري مجرى الفكاهة

رسوم مبتلة بمياه النيل

ولد حلمي التوني عام 1934 في بني سويف. درس فنون الزخرفة والديكور المسرحي في القاهرة. تركت دراسته أثرا لافتا في أسلوبه الفني الذي يجمع بين الاهتمام بالمفردات الزخرفية وبانورامية المكان الذي تحلق فيه تلك المفردات كأنها حين تحاول أن تفلت من تكرارها الزخرفي لا تذهب بعيدا، بل تظل وفية لسياق النغم العام الذي أطلقها وصارت بمثابة أصوات متعددة له. وفي ذلك يظهر التوني ثقته المطلقة بجماليات الحس الشعبي. منذ النظرة الأولى يشعر المرء وهو يرى رسوم التوني أنه يقف أمام رسوم مصرية، لا لأنها تستلهم عناصر الفن المصري القديم وطريقة المصريين القدماء في رسم شخوصهم ونحتها، بل لأنها تتماهى بطريقة ذكية في اقتضابها مع حياة المصريين المعاصرة. حتى يمكن القول إن في رسوم التوني الكثير من الهواء المصري الذي يتخلل اللغة الدارجة ويلبث ناعما تحت الثياب ويجري مجرى الفكاهة في الحارات المصرية الضيقة. فيه من العتق ما يتجدد ومن الجدة ما يقف ثابتا كأنه وجد ليحيا.

facebook
من أعمال حلمي التوني عن أغنيتي "زهرة المدائن" و"ست الحبايب"

حلمي التوني هو من الرسامين الذين لا يحتاجون إلى الاستفاضة في الحديث عن هوية فنهم، ذلك لأنه لم يغادر التربة التي نشأ ومد جذوره فيها. لا يزال هناك أثر من مياه النيل التي بللته حين فاضت ولم تتركه إلا بعدما أشبعته حكايات.

رسوم مشدودة

حلمي التوني هو رسام حكايات مسلية. حكايات يمكنها أن تكون رمزية، غير أنها لا تقطع صلتها بالواقع. فهي ابنة ذلك الواقع الذي تسعى إلى اضفاء نوع من الخيال عليه. سيكون علينا أن نصبر قليلا لئلا تفوتنا فكرة ذكية حاول الرسام أن يدسها في المنظر الذي يوهمنا بواقعيته التصويرية. ولأن التوني يعمل بتقنية الحفار (الرسام الغرافيكي) فإنه غالبا ما يلجأ إلى تهذيب وتشذيب واعادة صياغة المشاهد التي يستلهمها، بما يجعلها منسجمة مع صورتها المتخيلة. لا يرسم التوني صورا توضيحية للحكايات، بقدر ما يسعى إلى أن يكون حكواتيا من خلال الرسم. هو مؤلف حكاياته حتى وإن كانت تلك الحكايات مقتبسة من كتاب "ألف ليلة وليلة". قدرة رسومه على الحكي الذي لا يُمل، لا تُضاهى، وهي تستدرج في طريقها حكايات جانبية، مثلما كانت تفعل شهرزاد. كل رسمة هي حكاية وكل حكاية هي مبتدأ لحكايات تتبعها. ما يميز التوني عن سواه أنه، وبالرغم من تعلقه بالزخرفة التي لا يمكن تخيل رسومه خالية منها أو من أثر يشير إليها، لا يسرف في الحكي. جمله مثل رسومه مشدودة، متوترة كأن رخاءها صُنع من مادة صلبة.    

 facebook
الفنان الراحل حلمي التوني

الروح قبل الصورة

هل مد التوني يده إلى مكان، كان إلى وقت قريب يقف بعيدا عنه حين رسم مشاهير المطربين المصريين؟ ما فعله يومها كان جزءا من حماسة اشتعلت نارها بين أوساط الرسامين المصريين لرسم فناني مصر في الغناء والتمثيل بأسلوب الفن الشعبي الأميركي، وبالتحديد كما  ظهر لدى أندي وارهول حين رسم ماريلين مونرو وألفيس برسلي وجون واين. محاولة هي بمثابة استعادة لزمن الفن الجميل في مواجهة الكارثة الشعبوية التي يعيشها الفن حاليا في مصر. ما ميز رسوم التوني عن الآخرين، لا يكمن في الموضوع الذي صار مشاعا بل في التقنية التي اتبعها في معالجة ذلك الموضوع. لم يوجه عنايته إلى الصور الشخصية بقدر ما كان شغوفا بإقامة صلة بين تلك الصور وبين أهم ما قدمه حاملو تلك الصور من أعمال فنية خالدة، ستظل تذكر بهم. لذلك اكتسبت رسومه في هذا المجال طابعا تعبيريا جعلها تقف على مسافة ملحوظة من رسوم الآخرين، وفي الوقت نفسه لم تكن منفصلة عن تجربة الرسام الفنية. لقد صبّ جلّ اهتمامه على الحكاية فكانت الصورة الشخصية أشبه بالممثل الثانوي. وهو في ذلك إنما يستعيد تاريخه الشخصي مستمعا الى الأغاني ومشاهدا للأفلام. كان يود لو أنه اقتنص حياة الروح قبل المغنى.

التوني نوع ضروري من الرسامين لكي تكون المجلات والكتب ممكنة على المستوى الجمالي

ما يمكن تنفسه من هواء مصر

إن لم يتمكن منها فقد تقمصها، شخصية الفنان الشعبي التي لم يكن يرغب في أن يكونها إلا من طريق التماهي الروحي. كل المدلولات الشعبية هي ملك يديه. الوشم وزخارف السجاد اليدوي ورسوم الحج، غير أنها لم تكن كافية لكي يرى نفسه فيها رساما معاصرا. حينها كان عليه أن يتقمص روح الفنان الشعبي لتنكشف أمامه الدروب الخفية. أكان ضروريا أن يلج الدرب الطويلة ليصل إلى الفكرة البسيطة؟ أعتقد أن فنانا بحجم حلمي التوني لا يمكنه الاقتناع بالحلول الساذجة، بالرغم من أن نتائج بحثه المختبري لم تكن بعيدة عنها. كان يهمه أن يعود من مغامرته بالوصفة التي لا تقبل الخطأ. وهي العملية التي وظف من أجلها سنوات عمره وهو يقاتل الأشباح التي تسعى إلى الارتداد به إلى نقطة البداية، وهي النقطة التي وصل إليها بعد مسيرة كفاح، كانت في حقيقتها بمثابة بحث متأن في علاقة الذات بالموضوع. لقد وضع التوني نصب عينيه أن يكون مصريا في رسومه، لكن بالطريقة التي يرغب فيها المصري وهو يستعرض نزاهته التاريخية، صانع حضارة لا خادم سياسات. لذلك فإن من يقف أمام رسوم التوني لا بد من أن يشعر بالزهو. لا يزال هناك ما يمكن تنفسه من هواء مصر. ولم يكن ذلك ليقع لولا أن الفنان اهتدى إلى السبل التي يكون من خلالها فنانا شعبيا مصريا. حلمه القديم الذي صار ممكنا في حالة إلهام تصويري.

facebook
من أعمال حلمي التوني عن أغنيتي "كعب الغزال" و"يا حلو صبّح"

لم يكن حلمي التوني رسام لوحة حتى وإن كان رسم مئات اللوحات. التوني نوع ضروري من الرسامين لكي تكون المجلات والكتب ممكنة على المستوى الجمالي. هو ليس رساما تزيينيا كما يفهم البعض. كان خياله التصويري يكمل خيال النص الذي يرافقه. لذلك كانت الحكاية لازمة عيش بالنسبة إليه. من غير حكاية تبدو رسومه وصفات غامضة لطرق خيالية في العيش. كائناته تكتسب من الحكاية معاني وجودها. ستكون الرسوم ضرورية لكي تتنفس الهواء الذي جلبه لها رسامها من مكان، هو المكان الوحيد الذي يؤكد مصريتها.

حلمي التوني رسام حكايات مصرية خالص. 

font change

مقالات ذات صلة