ميلانو: منحت لجنة تحكيم مهرجان البندقية في دورته الحادية والثمانين، برئاسة الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير، جائزة الأسد الذهبي لفيلم "الغرفة المجاورة" للمخرج بيدرو ألمودوفار، وهو أول فيلم له باللغة الإنكليزية. كما حصل الفيلم الإيطالي "قرمزي" من إخراج ماورا ديلبيرو على جائزة الأسد الفضي – جائزة لجنة التحكيم الكبرى، في حين نال برادي كوربيت الأسد الفضي – جائزة أفضل مخرج عن فيلمه "المتوحش" الذي حظي باستحسان النقاد واعتبروه مفاجأة سينمائية حقيقية. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فقد ذهبت إلى فيلم "أبريل" للمخرجة الجورجية ديا كولومبيغاشفيلي.
ابتكار وأصالة
يمكن القول إن فوز فيلم "الغرفة المجاورة" قد أعلن عنه جزئيا في بداية المهرجان، حيث ساهم التصفيق الذي استمر لمدة سبع عشرة دقيقة بعد العرض الرسمي في الثاني من أيلول/ سبتمبر الماضي في توضيح مدى أهمية هذا العمل الجديد الذي استطاع بيدرو ألمودوفار من خلاله السيطرة على مشاعر الجمهور بلغة أصيلة، مبتكرا دائما صورا جديدة مع الحفاظ على أسلوبه الخاص. ففي جميع أفلامه، بدءا من "كيكا - جسد مستعار"، وصولا إلى "ألم ومجد"، مرورا بـ"العودة"، و"كل شيء عن أمي"، تتلاقى العلاقات والقصص والوجوه والرؤى والإلهام بشكل متكرر، مما يتجاوز كلمات المخرج الجريء المستعد لتحدّي نفسه والمغامرة بتجاوز حدوده الشخصية دون خوف من مواجهة المحظورات أو كسر الحدود. إنه شخصية بارزة جعلت منه رمزا عظيما وقدوة يقتدى بها، إذ زرع خلال خمسين عاما من مسيرته المهنية أفكارا عديدة وقدّم مساهمات سينمائية قيمة، بما في ذلك تأثيراته المتعددة في عالم الموضة، ويكفي أن نشير هنا إلى تعاونه الوثيق مع دار الأزياء الشهيرة "دولتشي وغابّانا".
زرع ألمودوفار خلال خمسين عاما من مسيرته المهنية أفكارا عديدة وقدّم مساهمات سينمائية قيمة
الآن، بعد مسيرة مهنية حافلة أمضاها في إخبارنا عن عالمه باللغة الإسبانية، يقرر بيدرو ألمودوفار الظهور للمرة الأولى في عمر يقارب 75 عاما من خلال إخراج فيلم صُوّر بالكامل باللغة الإنكليزية. مع ذلك، وفي هذه المغامرة الجديدة، لا يزال يختار أن يروي قصة الأنوثة من خلال منظور امرأتين، مارثا وإنغريد، اللتين تؤديان دوريهما على التوالي جوليان مور وتيلدا سوينتن اللتين تجسدان شخصيتين تعانيان من صعوبات هائلة وآلام فظيعة في الروح والجسد.
الأولى تعمل كاتبة لروايات شبه سيرة ذاتية، بينما الثانية مراسلة حربية سابقة تعاني من مرض خطير، حيث تكاد تكون فرصتها في البقاء على قيد الحياة بعد العلاج الكيميائي معدومة. تلتقي المرأتان بالمصادفة البحتة. إنها لحظة تستعيدان فيها الذكريات من جديد، صداقة قديمة قادرة على الاستمرار رغم مرور الزمن، حتى تتعزز تدريجيا وتتحول إلى شكل من أشكال الحب والتعاطف. تبدأ إنغريد، بمجرد أن تدرك مصيرها، بتنفيذ خطتها، فهي ترغب في إنهاء حياتها، وقد فكرت بالفعل في كل التفاصيل، وستتناول حبة دواء لتبدأ بذلك عملية الموت الرحيم. إنها خطوة مكتوبة مسبقا ولا عودة عنها، لكنها الآن تشعر بحاجة ماسة لوجود تلك الصديقة بجانبها، التي كانت تشاركها الغرفة المجاورة (من هنا جاء العنوان) خلال تلك الفترة السابقة. يصبح هذا الخيار ضروريا لكلتيهما، ولكنه في النهاية سيعمق ارتباطهما حتى النهاية.
يتعمّق بيدرو ألمودوفار في استكشاف الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، وبين الوعي والرغبة في اتخاذ القرارات بحرية، دون انتظار قدوم المرض وانتصاره على الإنسان. يتم ذلك من خلال مشهد سينمائي حميم، مستلهم من كتاب "ما الذي تمر به" للكاتبة الأميركية سيغريد نونيز، حيث يتجاوز الموضوع النغمات الميلودرامية أو الشفقة الذاتية ليشمل أيضا السخرية والتهكم. ويعبر ألمودوفار عن جوهر هذا العمل بقوله: "فيلم يتناول قصة امرأة تحتضر، في عالم يحتضر بدوره".
ضمير الحداثة
وصف الرئيس الجديد لمهرجان البندقية، بيتر أنجلو بوتّافوكو، دورة عام 2024 بأنها حدث تاريخي يعكس ضمير الحداثة المتقد. وقد عبّرت عن قدرة المهرجان الفائقة على قراءة الواقع الراهن واستشراف المستقبل. لقد أضفى المهرجان حيوية كبيرة على جزيرة ليدو خلال الفترة من 28 أغسطس/ آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول، حيث قدمت أعمال جديدة لا تُنسى، وتحف فنية من الماضي، بالإضافة إلى سحر السجادة الحمراء التي شهدت حضور العديد من الشخصيات المشهورة ورواد الفن السابع للاحتفاء بهم.
وكان المهرجان افتتح بعرض النسخة المرمّمة من الفيلم الإيطالي "ذهب نابولي"، الذي أخرجه عام 1954 المخرج الكبير فيتوريو دي سيكا، وقامت ببطولته النجمة صوفيا لورين، التي تقترب من إطفاء شمعتها التسعين. أعقب ذلك انطلاق عروض المهرجان بفيلم "بيتلجوس بيتلجوس" للمخرج تيم بيرتون، ثم تلته تكملة مجنونة أخرى وهي فيلم "جوكر" للمخرج تود فيليبس الذي يعود إلى الليدو مع عمله الجديد "ثنائي الجنون"، بالإضافة إلى فيلم "كوير" للمخرج الإيطالي لوكا غوادانيينو. كما خصصت مساحة لمسلسل "موسوليني، ابن القرن" من إخراج جو رايت، وهو مقتبس من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب الإيطالي أنطونيو سكوراتي، التي صدرت عن "منشورات المتوسط" العام الماضي بترجمة نبيل رضا مهايني. يسرد المسلسل قصة صعود بينيتو موسوليني إلى السلطة منذ تأسيس التشكيلات الفاشية المقاتلة في عام 1919 حتى الخطاب الذي ألقاه في البرلمان في 3 يناير/ كانون الثاني 1925 واستلامه مقاليد الحكم في البلاد.
عبّرت الدورة الأخيرة عن قدرة المهرجان الفائقة على قراءة الواقع الراهن واستشراف المستقبل
في هذه الأثناء، شهدت الساحة في ليدو عرضا رائعا من النجوم، كالعودة المهيبة لنيكول كيدمان، بطلة فيلم "الطفلة الصغيرة"، التي كانت آخر زياراتها للبندقية قبل خمسة وعشرين عاما، تحديدا في عام 1999، عند مشاركتها في فيلم "عيون مغمضة على اتساعها"، آخر أفلام الراحل ستانلي كيوبريك، بالإضافة إلى جينا أورتيغا ومونيكا بيلوتشي ووينونا رايدر. كما تألقت أنجلينا جولي بدور نجمة الأوبرا العالمية ماريا كالاس في الفيلم السيري، "ماريا". ولا يمكننا نسيان ملكة البوب ليدي غاغا وخواكين فينيكس، بالإضافة إلى الثنائي براد بيت وجورج كلوني اللذين يجسدان بطلي فيلم "الذئاب".
كما هو معتاد في كل عام، شهدت المسابقة حضورا بارزا للسينما الإيطالية، حيث تنافس جاني أميليو على جائزة الأسد الذهبي من خلال فيلمه "ساحة المعركة"، في حين شارك لوكا غوادانيينو بفيلم "كوير". من جهة أخرى، كان هناك أيضا فيلم "ديفا فوتورا"، الذي أخرجته الإيطالية-الأميركية جوليا لويز ستيجيروالت، وهو عمل مستوحى من الأحداث المتعلقة بوكالة التمثيل والإنتاج الإيطالية التي تحمل الاسم نفسه والمتخصصة في إنتاج الأفلام الإباحية، ويستند إلى رواية "لا تخبر أمك أنني سكرتيرة" للكاتبة ديبورا أتّانازيو. بالإضافة إلى ذلك، عُرض فيلم "إيدّو" الذي يعيد صياغة قصة زعيم المافيا ماتيو ميسينا دينارو، من بطولة توني سيرفيللو وإيليو جيرمانو.
البحر الأحمر السينمائي
تمثلت المشاركة العربية من خلال مجموعة من الأفلام الوثائقية والروائية التي حازت جوائز متنوعة في أقسام مختلفة من المهرجان، من بينها فيلم "وعاد مارون إلى بيروت" للمخرجة اللبنانية فيروز سرحال، بالإضافة إلى فيلم "كولونيا" للمخرج المصري محمد صيام، وفيلم "المراقبون" لكريمة سعيدي، وأخيرا، مثل مصر في مسابقة "أسبوع النقاد الدولي" فيلم "معطّر بالنعناع" لمحمد حمدي.
— Jomana Alrashid | جمانا الراشد (@jomanaalrashid) September 4, 2024
من جهة أخرى، واصلت "مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي" حضورها ومشاركتها في مهرجان البندقية السينمائي وذلك عبر أربعة أفلام حظيت بدعم صندوق البحر الأحمر.وشملت قائمة الأفلام المشاركة، فيلم "عائشة" للمخرج التونسي مهدي البرصاوي والذي عرض ضمن قسم "أوريزّونتي" المرموق. وكان الفيلم حصد جائزة سوق البحر الأحمر في الدورة الثانية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. أما فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" لمخرجه المصري خالد منصور، فعُرض ضمن "أوريزّونتي إكسترا" وهو أيضاً أحد الأفلام المختارة ضمن برنامج "اللودج" التابع لمعامل البحر الأحمر لعام 2021، كما حظي بدعم صندوق البحر الأحمر لعام 2023. أما فيلما "عائشة لا تستطيع الطيران" للمخرج المصري مراد مصطفى و"حتى بالعتمة بشوفك" للمخرج اللبناني نديم تابت، فعرضا ضمن مبادرة "فاينل كت" التي تدعمها المؤسسة للعام الثالث على التوالي، عبر جائزة مالية قدرها 5000 يورو تُمنح للفيلم الفائز في مرحلة ما بعد الإنتاج. وإلى جانب تلك الأفلام المميزة، عُرض فيلم "سودان يا غالي" للمخرجة التونسية الفرنسية هند المدب ومن شمال شرق آسيا عُرض فيلم "قتل حصان منغولي" للمخرجة الصينية شياوشوان جيانغ، ضمن قسم "جورنات دجلي أوتوري".
تمثلت المشاركة العربية من خلال مجموعة من الأفلام الوثائقية والروائية التي حازت جوائز متنوعة
وعلى هامش مهرجان البندقية السينمائي، واصلت "مؤسسة البحر الأحمر" للعام الرابع على التوالي دعمها لحفل "أمفار" الخيري، بقيادة جمانا راشد الراشد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي، إلى جانب شخصيات أخرى بارزة في الصناعة السينمائية، من بينهم: أكيلي بوريولي، ويليم دافو، ماتيو فانتاشيوتي، أليخاندرا غيري، أندريه جيلوت، هاري غوودوينز، تي رايان غرينوالت، لوسيان لافيسكونت، جوليان لينون، توني مانسيلا، كيفين مكلاتشي، كاثرين أوهارا، فين روبرتي، كارولين شوفيله، ديفيد تايت، أمير أوريار، وجون واتس
وتعليقاً على هذه المشاركة الواسعة، قالت رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي جمانا راشد الراشد: "إن المؤسسة فخورة بدعمها ستة أفلام استطاعت الوصول إلى مهرجان دولي عريق مثل مهرجان البندقية السينمائي، ما يجسّد قوة وأهمية السينما التي تنتجها منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا"، مشيرة إلى حرص المؤسسة على الاستمرار في دورها الداعم للإبداع والتنوّع الفكري والثقافي، لا سيما أنها توسّعت هذا العام نحو آسيا عبر الدعم الذي قدمته للمخرجة الصينية شياوشوان جيانغ. من جهة أخرى، نوّهت الراشد إلى أهمية استمرار الشراكة مع برنامج "فاينل كت" التي أثمرت حتى الآن عن مشروعين سينمائيين مبدعين لصنّاع أفلام موهوبين من جميع أنحاء المنطقة.
يُذكر أن "فاينل كت" التي تدعمها مؤسسة البحر الأحمر السينمائي على هامش مهرجان البندقية السينمائي، هي مبادرة تطويرية تقدم منذ العام 2013، دعماً ملموساً للأفلام من قارّة أفريقيا، ومن خمس دول من الشرق الأوسط: العراق، لبنان، فلسطين، وسوريا. وتأتي هذه المبادرة ضمن برنامج "جسر البندقية للإنتاج"، أحد برامج مهرجان البندقية السينمائي، بإشراف ألبرتو باربيرا وتنظيم "لا بينالي دي فينيسيا". يتيح البرنامج الفرصة لتقديم الأفلام التي لا تزال قيد الإنتاج إلى محترفي السينما الدوليين، لتسهيل مرحلة ما بعد الإنتاج والوصول إلى أسواق الأفلام الدولية بسلاسة. وامتد البرنامج لثلاثة أيام من الأنشطة والفعاليات بين 1 و3 سبتمبر 2024، في "ليدو" البندقية خلال الدورة الواحدة والثمانين من مهرجان البندقية السينمائي، حيث عرضت مجموعة من الأفلام أمام نخبة من المنتجين والموزّعين ومبرمجي المهرجانات السينمائية.
مؤسسة البحر الأحمر فخورة بدعمها ستة أفلام استطاعت الوصول إلى البندقية السينمائي، ما يجسّد قوة وأهمية السينما التي تنتجها منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا
جمانا راشد الراشد
تجدر الإشارة إلى أن صندوق البحر الأحمر السينمائي دعم منذ تأسيسه عام 2021 أكثر من 250 مشروعاً سينمائياً من العالم العربي وأفريقيا وآسيا، إضافة إلى إطلاقه العديد من المبادرات لدعم رواية القصص وصناعة السينما في المنطقة. ويُذكر أن الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ستنطلق في جدة بين 5 و14 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
تألّق فيلم "سودان يا غالي" من إخراج هند المدب في أيّام البندقية، وقد حصل الفيلم على دعم من #صندوق_البحر_الأحمر.
من جانب آخر، وافق مجلس إدارة المهرجان، الذي يرأسه بيترأنجيلو بوتافوكو، بالموافقة على اقتراح مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، على منح جائزة إنجاز العمر لكل من الممثلة المخضرمة سيغورني ويفر والمخرج بيتر وير. وللسنة السابعة على التوالي، صمم لورنزو ماتوتي الصورة الرسمية للملصق الخاص بمهرجان البندقية السينمائي. ووصف الفنان الملصق الذي يُظهر فيلا في البحيرة قائلا: "ما الذي يفعله الفيل في البحيرة؟ إنها بالتأكيد صورة غير تقليدية وغير متوقعة، لكنها تعيد إلى الأذهان تلك اللحظة التي وصل فيها أحد الفيلة إلى مدينة البندقية قبل سنوات عديدة، حيث تجول في شوارعها الضيقة خلال كرنفال البينالي الشهير عام 1981. هذا الفيل الآن يعبر الأقنية ويجوب مسارات الخيال والغموض والسحر التي نستكشفها في عالم السينما. إن هذا الفيل يمثل أيضا ذاكرة وتاريخ السينما ذاتها. كما أن لونه المميز يذكّرنا بالغربة والبعد وسحر الشرق، ويعكس نظرة نحو الحضارات والثقافات الأخرى. لقد كان المهرجان دائما ملتقى لعوالم أخرى ولغات مختلفة وتصورات متنوعة".