في ربيع عام 2011، وفي ذروة الاحتجاجات الليبية ضد الدكتاتور سيئ السمعة معمر القذافي، كانت الأجواء في مركز عمليات بنغازي متوترة. وبينما كان الثوار يتجمعون في أحد الصباحات، لاحظوا مشهدا غير عادي. ففي إحدى الزوايا، كان هناك عدد قليل من الشباب العابسين يشربون القهوة ويتصفحون موقع "فيسبوك" على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم.
ولقد افترض الثوار أن هؤلاء مجندون جدد دفعهم حماسهم إلى التجول في هذه المنطقة الحساسة، فاقتربوا منهم، ليشرحوا لهم أهمية الأمن العملياتي أثناء الحرب. ولكن ضابطا أكبر سنا تدخل قائلا: "اتركوهم وشأنهم، إنهم أبناء الجنرال حفتر".
كان الجنرال خليفة حفتر قد عاد لتوه إلى ليبيا، وهو الانقلابي الذي كان حليفا للقذافي ذات يوم ثم انقلب عليه واستحال عدوا له، وعرض قيادة القوات الثورية (بطريقة متطلبة للغاية). لذا، كان من المقرر أن يبقى أبناؤه "متوارين عن الأنظار" إلى أن تُحل القضايا المتعلقة بالقيادة. لكن سرعان ما نمت المعارضة للجنرال، الذي عُرف عنه آنذاك في ليبيا ارتكابه جرائم ضد شعبه أثناء الحرب التشادية في ثمانينات القرن الماضي، ونمت المعارضة أيضا إزاء أبنائه الذين كانوا يثيرون غضب أولئك القابعين في غرفة العمليات لرفضهم مد يد المساعدة لهم واستعراض مكانتهم وحصانتهم بعنجهية بدلا من ذلك، حيث كانوا يمضون الوقت في تصفح الإنترنت على أجهزة كمبيوتر غير آمنة. إلى أن جاء يوم، علت الابتسامات وجوه هؤلاء المتمردون أنفسهم. لقد حصلوا على الإذن بطرد أبناء حفتر.
اختفى أحد هؤلاء الشباب، صدام، عن الأنظار حتى وقت لاحق من ذلك العام. وفي خضم الفوضى التي أعقبت سقوط طرابلس في 2012، أصيب بجروح أثناء محاولته اقتحام "بنك الأمان".
وبعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاما، أصبح ذلك الشاب العابس، صدام حفتر، الآن عميدا ورئيسا لأركان القوات البرية للقوات المسلحة العربية الليبية.
مثل معظم قصص "النجاح" في بعض السياسات العربية الحديثة، فإن صعود صدام المفاجئ متجذر بعمق في المحسوبية ومحاباة الأقارب. وعلى الرغم من أنه لم يخضع قط لأي تدريب عسكري حقيقي ولم يتلقَ تدريبا لإعداده كضابط، فإنه كان مساعدا حاسما في الصراع الذي خاضه والده على السلطة، وذلك من خلال التناوب بين كونه دبلوماسيا، وكونه قامعا لمعارضيه، إلى جانب الإشراف على عمليات تجارية متعددة الجنسيات تدر أرباحا غير عادية بدءا من الخردة المعدنية ووصولا إلى البشر، حسب قول معارضين له.
لهذا السبب، ورغم أنه لم يكمل تعليمه قط، ولم تظهر عليه أية علامات ملحوظة تدل على امتلاكه شخصية كاريزمية، كما اقتصرت السياسة على أدوات العنف، فإنه يحظى الآن بدعم الجميع بما في ذلك واشنطن كي يصبح القيادي الأعلى القادم في ليبيا.
ابن الكرامة
بعد رفض الثورة له بقسوة وبأسلوب فج، غادر الجنرال حفتر ليبيا، ولم يعد إلى بنغازي إلا في عام 2014 محملا بنوايا محددة. ومن خلال تصوير فيديو هاو في قاعدة عسكرية، أطلق "عملية الكرامة". وهي عملية مصممة بعناية فائقة كي تبدو وكأنها معركة محلية ضد التطرف الإسلامي، في حين كانت في الحقيقة مجرد عملية متعددة الجنسيات لإعادة الجمهورية الليبية الغارقة في الفوضى إلى حالة من الاستبداد العسكري.
وحلت لاحقا سنوات من حرب المدن الفوضوية والمدمرة، قبل أن يدخل حفتر الى بنغازي التي كانت تحت سيطرة قوات من تحالف متداعٍ من الثوار والإسلاميين والمتطرفين والشباب الفقراء الذين انتهى الأمر بهم ببساطة في الجانب الخطأ من الصراع. ورغم ادعائه في البداية بأنه سيتقاعد بعد "تحرير" بنغازي، فإن تحالف حفتر متعدد الجنسيات ضغط بشكل غير مفاجئ للاستيلاء على باقي أجزاء شرق ليبيا، وقام بإخضاع مدينة درنة بعنف من خلال سلسلة من الضربات الجوية المقدمة من الخارج وإطباق حصار خانق على المدينة. وبشكل تدريجي كان حفتر يستبدل السلاح بالذهب، وفي النهاية استولى على الهلال النفطي الغني في ليبيا وعلى مساحات شاسعة من جنوب البلاد من خلال تقديم وعود بالهيبة والثروات للقبائل الرئيسة إذا أصبحت صاحبة الامتياز المحلي لمغامرته العسكرية التي قدمها الآن كمشروع وطني.
وفي الوقت الذي كان معظم الاهتمام خلال هذه السنوات منصبا على ساحات القتال في ليبيا، أبقى صدام آلة والده العسكرية مزودة بالأسلحة والذخيرة والتمويل والدعم الذي تحتاجه لإكمال المهمة، فعمل منذ وقت مبكر على صقل مهاراته كمشغل دولي. ومن مكتب في حي راقٍ في دولة شرق أوسطية، شغل صدام منصب سفير "معركة الكرامة" الفعلي، حيث أدار الدعم المادي الموجه إلى حملة والده. ووفقا لفريق خبراء الأمم المتحدة المسؤول عن التحقيق في انتهاكات نظام العقوبات الليبي، كانت عمليات إعادة الإمداد العسكرية هذه تدار عادة من قبل شركات غامضة لتأجير طائرات، كانت تسافر عبر دول أخرى، إلى طبرق.