لم يتوان الكاتب البولندي فيتولد غومبروفيتش (1904-1969) في يوميّاته (من 1953 حتى 1969) عن انتقاد الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس (1899-1986)، في أكثر من مناسبة، بشكل حادّ ولاذع، وبلغت سخريته الحد الأقصى في سنة 1962، حينما أفرد جزءا من يومياته لبورخيس ومساعيه اللاهثة وراء عظمة الفوز بجائزة نوبل.
وبحسب غومبروفتيتش فقد سافر صاحب المرايا والمتاهات مع والدته العجوز ليونور، متوجهين إلى أوروبا بهدف البهرجة، وإلقاء محاضرات وحضور حفلات أعياد، بتدبير من فكتوريا أوكامبو، سعيا لاهثا وراء ما يسميه بالصوف الذهبي لجائزة نوبل، حتى يشغل الحيز الملتهب للصحافة الرعناء في مدريد وباريس وجنيف ولندن. ما أشبهه في نظر غومبروفيتش بالوكيل التجاري المتجول، أو بصورة أخرى نجما رياضيّا يروّج لمنتخب الأرجنتين لكرة القدم في مباراة دولية، والفخ أن يتحول هو نفسه إلى كرة.
التغزّل بلجنة نوبل
تنبأ غومبروفيتش بأسف شديد أن بورخيس سينال الجائزة وفق هذه المؤشرات البهلوانية، وكان تنبؤه خاطئا، بتقدير سيء في استشراف الحدث مع أنّ قراءته للظاهرة محض انتقاد ساخر، مغال حدّ الانزلاق إلى الشتم غير اللائق.
أدب بورخيس في نظر غومبروفيتش مكتوب بآلية تتغزل بذوق أعضاء لجنة نوبل
أدب بورخيس في نظر غومبروفيتش مكتوب بآلية تتغزل بذوق أعضاء لجنة نوبل، كل شيء مخطط له كما ينبغي ليكون مرشحا مثاليا ككاتب سكولاستيكي، تجريدي، مجدف ميتافيزيقي، بلا أصالة، في كل الأحول هو أستاذ الطبخ الأول، وهذا ما تفضحه محاضرة بعنوان "حول جوهر الميتافيزيقا"، وهي كمثل أخريات، ملفقة كنار مصطعنة.
لا يقف غومبروفيتش عند هذه المقدمة الناسفة، بل يُفاقم من انتقاده، ناعتا مجمل كتابات بورخيس برقصات فكر بلاغي ميت عاجز عن طرح أي فكرة حيّة. بهذه التوليفات بات معيار عظمة الأدب هو لا أدبيته.
ما يغيظ غومبروفيتش أكثر ليس بورخيس نفسه، بل البورخيسيون أو تلاميذه، هذا الجيش من ذوي الحس الجمالي المغشوش المفرط، العالمون المحيطون بكل شيء، ساعاتيون يتكلفون المعرفة ويتظاهرون بقيم فكرية زائفة في العمق، بل هذا ما نجح بورخيس في استنفاره إذ حشد حوله أردأ الذواقين والمخصيين أدبيا.
يستأنف غومبروفيتش حنقه مردفا بأن بورخيس أرجنتيني على الطريقة الأوروبية، مجرد ظاهرة للكتابة عن الكتب، للأدب عن الأدب، وليس الحياة المنفصل عنها أيما انفصال محزن. وإن كان من موهبة يتفرد بها فهي توضيب الألغاز المسلية، والحال أن لا علاقة له بمشاكل الأرجنتين خاصة، وأميركا اللاتينية عامة.
يستغرب غومبروفيتش في يومية دوّنها سنة 1963 وقد حلّ في باريس من أنّ الفرنسيين لا يعرفون سوى القليل عن أعمال سارتر التي أعجب بها هو شخصيا من مسافة بعيدة خلال إقامته في الأرجنتين، مقارنا إيّاه ببورخيس، هذا الأخير الذي يلقى حفاوة واحتراما لدى شرائح واسعة في المشهد الثقافي الفرنسي، مقابل الجفاء والهجوم المتواصل الذي يتلقاه سارتر من هؤلاء، مرجحا تفسير ذلك بغباء السياسة.
مواقف مخزية
تلفتنا هذه الإشارة ضمن نسق أخلاقي آخر إلى حضيض مواقف بورخيس المخزية، صمته المطبق عمّا كان يعتمل في بلده من مأساة، وهو صمت متواطئ مع السلطة ضد البيرونية، فضلا عن إعلان صريح منه في مقام مواز إعجابه بالديكتاتور التشيلياني بينوشيه، وهذا ما جعل كاتبا أرجنتينيّا نوعيا نقيضا كإرنستو ساباتو يشجب جبن بورخيس، برهابه من واقعه السوداوي، وهو التفسير المنطقي لهروبه إلى ممارسة الألعاب في عالم مخترع، ملتزما عقيدة الأفلاطونية. لا أثر للأرجنتين المعاصرة بملء زخمها التاريخي والسياسي والشعبي في أدب بورخيس، إنها مهجورة لأكثر من سبب لعل أبرزها هو أن الرجل يجهل واقعها، فيما يتحصن بنفق أشباحه الخاصة خوفا من الخروج إلى شوارع بوينس آيريس، والاصطدام بحقيقة قيعانها المتشعبة.
بورخيس المنفصل عن بلده، مجتمعه وتاريخه، يصدم الكثيرين في المحادثات التي أجراها معه أدولفو بيوي كاساريس، كاشفا عن عنصريته، خاصة ما نَشَزَ به حول ذوي البشرة السمراء والشعب البرازيلي بالذات، كذا تعاطفه غير الموارب مع إسرائيل في مناسبات متعاقبة.
بذوقه الكوزموبوليتاني انزاح بورخيس إلى أوروبا، منسلخا عن ترابه الأرجنتيني، نجح في أن يصير عابرا للحدود، لكن بمظلة مستعارة، دون أصالة يفوح منها دم أميركا اللاتينية الفوّار. هذا الجنوح في الشهرة ذات السعة اللامتناهية، يقابلها انكماش في مواقفه الأخلاقية المخجلة، ذات الضآلة اللامشرفة، هو الذي ما فتئ يردّد اللازمة العنصرية بافتخاره كمُنتمٍ إلى "بلد الرجل الأبيض"، بل شطّ به موج الإهانة والابتذال، إذ نعت البرازيل ببلد القرود: "البرازيل غريبة، نحن قريبون منها ولا نريد الذهاب إليها... تبدو لنا بلد القرود"، وفي سياق لاحق سُئِل سنة 1971 عن عدم إعجابه بالبرازيل وأكّد بيقين دامغ: "لأنها بلد السود".
أنا عنصري
هذه الآراء "غير الأصيلة لرجل أصيل"، بحسب مقال مارسيلو مينديز دي سوزا، تتضاعف حدّة حينما يتعلق الأمر بأفارقة أميركا، ففي محادثة مع مترجمه في أميركا الشمالية توماس دي جيوفاني، يصرّح بورخيس: "أنا عنصري. سآخذ الكلمة منهم وسنرى من سيخرج منتصرا، سأطهر الولايات المتحدة من السود، وإذا لم يوقفني أحد، فسأفعل الشيء نفسه حتى في البرازيل، إذا لم يتخلصوا من السود، فإنهم سيجعلون من البلاد أفريقيا أخرى". أفدح من ذلك، علّق حول اجتماع الشعراء الأفارقة في برلين واصفا إياه بالنازية المقلوبة.
لا أثر للأرجنتين المعاصرة بملء زخمها التاريخي والسياسي والشعبي في أدب بورخيس
التوصيف الدوني نفسه أطلقه على الباسكيين في محاورة مع الصحافي رودلفو براسيلي التي ضمّها كتابه "كُتّابٌ حفاةُ الأقدام"، إذ يردّ: "الباسكية؟ لا أفهم كيف يمكن لأي شخص أن يشعر بالفخر لكونه من الباسك... يبدو الباسكيون عديمي الفائدة بالنسبة لي أكثر من السود... السود لم يكونوا مفيدين لشيء سوى كونهم عبيدا".
عودا إلى غومبروفيتش الغاضب من بهلوانيات بورخيس ككاتب، فمن المفارقة الحادّة أن يكون غومبروفيتش نفسه اختار الأرجنتين كوجهة سفر محلوم بها لفترة حاسمة من حياته، خارجا من بولندا/ أوروبا، على أمل أن يعود بعد أسبوعين، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية ألزمته المكوث فيها كمنفى، وكانت ملاذا شخصيا وجماليا على طول أربع وعشرين سنة (1939/ 1963)، في الوقت الذي نزح فيه بورخيس مجازيا خارج الأرجنتين صوب أوروبا، في نزوع كوزموبوليتاني.