زياد عبد الله: كتابي مشروط بالمتخيل والتماهي مع الخيالي

عن "لا تقرأ هذا الكتاب إن لم تر من السماء إلا زرقتها"

AlMajalla
AlMajalla

زياد عبد الله: كتابي مشروط بالمتخيل والتماهي مع الخيالي

في هذا الحوار مع "المجلة"، نحاول مع صاحب "برّ دبي" الغوص على آخر أعماله "لا تقرأ هذا الكتاب إن لم تر من السماء إلا زرقتها"، الصادر عن محترف "أوكسيجين للنشر"، ضمن سلسلة "أوكلاسيك" التي تَعِدُ بأعمال استثنائية على غرار "ثورة البهائم" للروسي نيكولاي كوستوماروفو ، "رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين" لألكسندر تشايانوفو، "هكذا تكلم أوسكار وايلد" الصادرة عن هذه السلسلة التي قال عنها الكاتب إنها تتشكل من أعمال لا تمتثل للزمن وتقسيمه إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، فهي وإن كانت تستمد كتُبَها من الماضي، فإنها تختبرها حاضرا ومستقبلا بانتقاء ما هو عصيّ على الزمن، في اتباع دائم وحرّ للاكتشاف وإعادة اكتشاف الكلاسيكيات وليكون اسم السلسلة أول معبر لهويتها، فهو نتاج معادلة مفادها: أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك، بحيث لا تقتصر هذه السلسلة على ما كُتب بلغاتٍ غير العربية، بل تشتبك وتتشابك وتتقاطع أيضا مع المنتَج العربي الذي يُعرف بـ"التراث". هنا نص الحوار.

  • المراجعات النقدية الأولى لعملك الأخير "لا تقرأ هذا الكتاب إن لم تر من السماء إلا زرقتها"، تتفق على أنه محاولة لقراءة التراث العربي الإسلامي على نحو مختلف، رغم أن القارئ قد ينتهي إلى نتيجة مختلفة تماما، وهي أنك وظفت التراث رغبة في خلق سرد خاص بك ظهرت بعض ملامحه في أعمال سابقة، بعيدا عن أي دعوة مثالية لقراءة جديدة للتراث... إلى أيّ الرأيين تميل؟

أميل الى الرأي الثاني كمنطلق وآلية، وهوس على الأرجح، أي توظيف التراث في خلق سرد خاص بي، وهو جزء من مشروعي المتعلق بالسرد العربي المصاحب لمشروعي الروائي بدأته بكتاب "الإسلام والضحك"، بينما كانت عوالم القزويني والغرناطي ترافقني كشريط سينمائي في رأسي، أتخيل الكائنات والمدن والموجودات بصريا، وثمة مخطوط اطلعت عليه فيه رسوم مدهشة لتلك المخلوقات لكن رسامها مجهول، ولعلي بداية أسّست لإطار حكائي أو منطق سردي بحواريتي معهما، ومن ثم اتبعت آلية مونتاجية في ترتيب عوالمهما، في ترتيب الفصول بما يبني مشهدية لها أن تكون درامية أحيانا، أو ببساطة بناء كل فصل وربطه بالآخر وفق خريطة وهمية/ خيالية لها برّها وبحرها وجوها وما خفي عنّا في الغيبي والماورائي والميثولوجي، كأنني ابن القارح في "رسالة الغفران" أو فرجيلو في "الكوميديا الإلهية" مع حرصي الشديد على ألا تطال الكتاب أي شبهة بأنه دراسة، حتى أنني تركت المصادر والمراجع وكل ما هو بحثي إلى النهاية كملحق لئلا تعيق تدفق السرد. ولعله من الطبيعي أن يُرى ذلك قراءة مغايرة للتراث أيضا، بمعنى إتاحة الكتابين لي أن أفعل ما فعلت، واحتكامهما على تلك العوالم، وبالتالي فإنهما بشكل أو آخر أتاحا لي إعادة إنتاجهما في سياق مغاير، وهذا بحد ذاته ثراء ما بعده ثراء للكتابين أولا.

ما حصل في سوريا وما آل إليه وطني ينافس المخيلة ويتفوّق عليها

جوهرية الشكل

  • مع كل عمل يصدر لك، خاصة بعد "ديناميت"، تظهر في كتابتك روح تمرّد وثورة على السائد السردي عربيا، على مستوى اللغة والأسلوب وحتى على مستوى القالب السردي الذي تضع ضمنه أعمالك، وهذا يظهر في كتابك الأخير أيضا... هل تشعر أنك بلغت ما ترجوه من رحلة البحث هذه؟

لا أبدا. البحث لا يزال جاريا، وفي توقفي عن ذلك مقتلي. أؤمن أن كل فعل إبداعي حقيقي متصل بالشكل، وهذا بالتالي مدعاة للتمرد على الأشكال السائدة، وغياب ذلك يعني الرضى بما هو قائم، كما أن عملية التأليف أمر مختلف تماما عن السرد لمجرد السرد، وأن تحكي حكاية والسلام، فهذا هو الهراء بعينه، فهناك روايات لا عد ولا حصر لها لا تتعدى الريبورتاج الصحافي، وهذا قبض الريح، وتعزيز للرداءة المتسيدة كل شيء في عالمنا.  في أول روايتين لي، "بر دبي" و"ديناميت"، تلبسني الشكل وفقا للمدينتين اللتين تدور فيهما الأحداث، في "كلاب المناطق المحررة" استعنت على الحرب في بلدي سوريا بالمخيلة، ضد الإنشاء المرافق لها، الكتابة الملطخة بالدماء ودعوات القتل، الصراخ عن بعد، العويل والندب، ونأيت بنفسي عن التوثيق بوصفه فعلا أدبيا، أو حتى ما هو متعارف عليه بقدرة الرواية على تقديم الرواية الموازية للواقعي، لأن ما حصل  في سوريا وما آل إليه وطني بدا منافسا للمخيلة ومتفوقا عليها، فوجدت ضالتي بالمجاز، واستعنت بالمخيلة المستمدة تماما من الواقع الخيالي الذي وصلنا إليه! فالواقع ليس هو الفن، على رأي أندره بازان، ولكن الفن الواقعي يخلق جمالية لا تنفصل عن الواقع.

AFP
مخيم مؤقت للاجئين السوريين في مدينة إدلب في شمال غرب سوريا

  • اخترت عنوان كتابك هذا بما يوحي أنك تتخير من القراء من يملكون القدرة على التأمل والنظر أبعد إلى ما تشير إليه الأصبع. هل هذا ما رغبت فيه، أم هو عنوان يطرق باب الفضول فحسب؟

نعم هو دعوة إلى قارئ يؤمن بالخيال والتأمل، والخيال هو أول باب للحرية، كما أوردت في الكتاب، ومن لا يؤمن بذلك فأنصحه بألا يقرأه بمنتهى الصدق والأمانة، وبالتالي فإن فضوله يجب أن يتأسس على سؤال شخصي، فإن كانت الإجابة: نعم إنني أرى في السماء أكثر من زرقتها، فباشر قراءة الكتاب، وإن كانت الإجابة "لا" فدعك منه، فالكتاب مشروط بالمتخيل، والتماهي مع الخيالي، مع اعتقادي أن هناك من قد يكون مهووسا بفيلم/رواية "سيد الخواتم" أو "لعبة العروش" ويجد هذا الكتاب مفرط الخيال، لا لشيء إلا لأنه مأخوذ من تراث/ميثولوجيا عربية، على مبدأ متبع في عالمنا العربي يلخصه المثل الشعبي القائل "كل ما هو فرنجي برنجي".

سؤال الجدوى

  • تبدي إعجابا فريدا بالقزويني والغرناطي، لا سيما ما تعلّق بقدرتهما التخيلية العجيبة، لكنك لم تجب عن سؤال مهمّ ارتبط بشكل خاص بكتب الرحّالة العرب والمسلمين، وامتدّ إلى الرحالة الغربيين لاحقا والمتعلّق بجدوى ما كتبوه بعيدا عن الإمتاع. ألا ترى أن فرط الخيال الذي ميّز سردهم لرحلاتهم، غرس صورة كاذبة عن الآخر في عقول مجايليهم واللاحقين لهم لقرون طويلة؟

وضحت في الكتاب مقاصدي تماما، لا بل إن اشتغالي كان في سياق غير معني بصورة كاذبة أو صادقة، وليس في الكتاب ما يدفع إلى التساؤل والبحث عن الكاذب والصادق، طالما أنه مشرّع أمام المخيلة، وهو بكل المعاني رحلة خيالية، بل إنني استخلصت ما هو متخيل وتركت ما هو علمي وصادق وكاذب، تحديدا في كتاب القزويني، ففيه تحديدا كشوف علمية استثنائية في عصره، لكنني أورد من البداية في حوارية معه: "أنا لا أبحث عن توصيفاتك للأشهر والتقاويم والأفلاك والكواكب، ولا حتى قولك بكروية الأرض ونحو ذلك! أنت سابق لعصرك ولاحقٌ لعصري في العلم، وسابق لعصري وعصرك في المخيلة، وفي هذا التوصيف الأخير ما يشمل الغرناطي، من دون أن أُدخلَه في معترك العلوم، فهو لا ناقة له فيها ولا جمل، وأنا أبحث عن الخيال، عن الجمال!".

AFP
مبنى متضرر بسبب الحرب يأوي نازحين سوريين في مدينة الرقة التي تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا في الأول من مارس 2023

  • يقول أنطونيو غرامشي: "بقدر ما ازداد تاريخ أي بلد إيغالا في القدم، زاد عدد الطبقات المتشكّلة من أناس كسالى وطفيليين يعيشون على إرث الأجداد". ألا تخشى مع الميل الشديد إلى الكتابة بتوظيف التراث والتاريخ، دون محاولة تطهيره وإعادة قراءته بمنظور حداثي ثم إسقاطه على واقعنا، أن نجد أنفسنا دون إدراك ضمن "الكسالى والطفيليين" الذين وصفهم غرامشي أيضا بمتقاعدي التاريخ؟

جميل ما يقوله غرامشي، فهو يحفزني للتساؤل عربيا، هل نحن في قمة نشاطنا وحيويتنا في التعامل مع إرث الأجداد؟ ولعلي أتجرأ وأجيب بـ لا!  لا بل نحن كسالى وطفيليون إن تعلق الأمر بالتراث، إنه مجهول تماما بالنسبة لأجيال وأجيال، لا بل يناصبونه العداء على مبدأ أن الإنسان عدو ما يجهل. قد يقبل القارئ العربي أي تهويمات خيالية من أميركا اللاتينية ويتكلم عن واقعية سحرية وغير سحرية لكنه غير معني بالمخيلة العربية وسحرها وتهويماتها. وأنا مشغول تماما بهذه الجزئية الجوهرية، وفي الكتاب مسعى أولي لنبش هذه المخيلة ووضعها في قالب سردي حديث، والمنبع فكريا متصل بأسئلة جوهرية كثيرة، أكتفي بإيراد ما يدلل على ما هو ضد الكسل، فأنا في هذا الكتاب مسكون بإشكالية كبرى في تراثنا وهي أن المتخيل متداخل مع المقدّس، والقارئ قد يقبل ما هو خيالي ومقدّس في التراث، لكنه لن يقبل الخيالي من دون صفة المقدّس، على سبيل المثل مرويات كعب الأحبار، أو حتى جزء كبير جدا من "تاريخ الطبري" ونحو ذلك، بما يشمل كتابي أيضا. وعلى صعيد روائي فإنني في روايتي "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام"، اشتغلت على آليات السرد العربي وتنويعاته، لكنني مضيت بعيدا في الخيال، صنعت رواية مستقبلية، خيال علمي يحدث عام 1984 لكن هجري.

  نحن كسالى وطفيليون كلّما تعلق الأمر بالتراث

  • هذا أول عمل يصدر في سلسلة "أوكلاسيك" لمحترف أوكسيجين للنشر. هل سنقرأ كتبا أخرى قريبا في هذه السلسلة التي أردتها منبرا جديدا للكتابة المختلفة والجديدة؟

صدر من السلسلة إلى الآن أربعة كتب، كتابي هو الوحيد بينها المستمد من التراث العربي والثلاثة الأخرى روايتان عن الروسية "ثورة البهائم" و"رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين" وكتاب بعنوان "هكذا تكلم أوسكار وايلد". ما قدّمته في كتابي نموذج ربما، أو دعوة لنهج ما، طالما أن هذه السلسلة لا تمتثل للزمن وتقسيمه إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، فهي وإن كانت تستمد كتُبَها من الماضي، فإنها تختبرها حاضرا ومستقبلا بانتقاء ما هو عصيّ على الزمن، في اتباع دائم وحرّ للاكتشاف وإعادة اكتشاف الكلاسيكيات وليكون اسم السلسلة أول معبر لهويتها، فهو نتاج معادلة مفادها: أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك، بحيث لا تقتصر هذه السلسلة على ما كُتب بلغاتٍ غير العربية، بل تشتبك وتتشابك وتتقاطع أيضا مع المنتَج العربي الذي يُعرف بـ"التراث"، والتأسيس من خلالها لسياق يدمج "التراثي" بالإنساني والعالمي والكوني، عبر استعادة إبداعاته أدبا وفكرا وخيالا بما يخلق حوارية عصرية معه، تتطلّع إلى تجنيسه، ونزع صفة "التراث" عنه والدلالات الأيديولوجية ومأزق الهوية والآخر، وفي هذا المسعى تحدٍ كبير، فالاكتشاف وإعادة الاكتشاف في الكلاسيكيات الأجنبية تمّ ترسيخه، أما ما هو متصل بتراثنا فإنه تطلع كبير، وخاصة في تجنيسه، وكلي أمل أن ينجح كثر غيري في ذلك عبر سلسلة أوكلاسيك، وبالتالي ننجح في جعل التراث العربي كلاسيكاً.

font change

مقالات ذات صلة