في العلاقة بين الشعر ونقده قديما وحديثاhttps://www.majalla.com/node/322122/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%87-%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A7
في تاريخ الأدب العربي، كان الشعراء دائما أبرز المساهمين في حركة النقد، نقد الشعر تحديدا. وبحسب الروايات، كان النقد في مراحل ما قبل الإسلام مقتصرا على آراء الشعراء، التي كانوا يتبادلونها في أسواق الأدب، كسوق عكاظ. هذا إذا لم نُضف إلى طبقة الشعراء طبقة الرواة، الذين اضطلعوا بحفظ الشعر وروايته وإنشاده، ثم راحوا بعد ذلك _ أي في مراحلَ إسلامية لاحقة _ يضعون المؤلفات التي تضم مختاراتهم من الشعر موزّعة على درجات أو طبقات. ومن أبرز هذه المؤلفات "المفضَّليات" للمفضَّل الضبّي، و"الأصمعيات" للأصمعي. و"جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي.
في مرحلة ازدهار النقد، وبالأخص في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ظل الشعراء يلعبون دورا أساسيا في نقد الشعر، وإن كان ذلك على نحو غير مباشر.
فالشعراء في تلك المرحلة لم يكتبوا في النقد، أو بالأحرى لم يضعوا المؤلفات النقدية، وإنما كانت لهم آراؤهم وأحكامهم التي عبّروا عنها بطريقة أو بأخرى.
فالكثيرون منهم عبّروا عن آرائهم في الشعر من خلال قصائدهم، أي من خلال الشعر نفسه. ويأتي في طليعة هؤلاء أبو تمام والبحتري، اللذان بثّا في قصائدهما الكثير من الأبيات التي تنطوي على رؤى في الشعر وحول الشعر. نكتفي هنا بإيراد هذا البيت للبحتري:
عبّر الشعراء عن آرائهم في الشعر من خلال قصائدهم، أي من خلال الشعر نفسه، ويأتي في طليعة هؤلاء أبو تمام والبحتري
وكثيرون أيضا من الشعراء عبّروا عن توجهاتهم النقدية من خلال انتقائهم ما يعجبهم من شعر، أي بإعدادهم مختارات شعرية. والشاعر الرائد في هذا المجال هو أبو تمام، صاحب كتاب "ديوان الحماسة"، الذي اشتهر الناقد المرزوقي بشرحه، أي بكتابه "شرح ديوان الحماسة". وقد كان لأهمية ورهافة الاختيار الذي قام به أبو تمام أن تبِعَهُ في ذلك آخرون من شعراء أو غير شعراء. وقد بلغ الأمر في هذا المجال أن سُميت كتبُ المختارات التي ظهرت بعد "حماسة" أبي تمام بالحماسات. من ذلك مثلا "حماسة البحتري" و"حماسة الشجري" ...الخ.
ومن الشعراء من عبّر عن توجهه النقدي من خلال التأليف في البلاغة، كما فعل ابن المعتزّ، صاحب كتاب "البديع". ومنهم من عبّر عن آرائه النقدية بشرحه ديوان شاعر آخر، كما فعل المعرّي عندما وضع كتابه المشهور "مُعْجِز أحمد"، شارحا فيه ديوان المتنبي.
لقد ساهم الشعراء مساهمة فعالة في الحركة النقدية، دون أن يكتبوا في النقد. وذلك في مرحلة ازدهار النقد العربي في بعض العصور العباسية، حيث برز نقّاد مختصّون، تضافرت جهودهم في وضع نظرية عامة في الشعر، عُرفت باسم "عمود الشعر".
الشعراء والمؤسسة النقدية
"عمود الشعر" تسمية لنظرية نقدية. إلا أنها تحوّلت مع الوقت (الذي يقدّر بعدة قرون) إلى ما يشبه المؤسسة. مؤسسة استفاد فيها النقاد من جهود البلاغيين وعلماء الكلام وبعض الفلاسفة (أو المتفلسفين)، وبالأخص من جهود الفقهاء. هذه المؤسسة كان لها همّ أساسي أو مركزي، هو تدجين الشعر وإبقاؤه تحت السيطرة، أي إبقاؤه متناسبا مع القيَم الدينية التي لا تريد للشعر أو لغيره أن يُحدث شغبا أو تشكيكا أو تمردا. وفي هذا ما يُفقد الشعر مسوّغه الأول، وهو ابتكار الرؤى الجديدة وطرح الأسئلة البِكر.
في المقابل، لم ينصَع الشعراء، بل رفضوا الانضواء في المؤسسة النقدية، "عمود الشعر". وراحوا يُرمَوْن من قِبل المؤسسين أو المؤسساتيين بتهمة التمرّد أو الخروج على "عمود الشعر". وكان لهذا الخروج أو التمرد أن يتيح قيامَ حركة شعرية شكّلت الوجه الأبرز للثقافة العربية المتجدّدة، بل للحضارة العربية التي نشأت من تفاعل بين مختلف الثقافات المعروفة في تلك المرحلة، عربية كانت أو غير عربية.
هكذا لم تستطع المؤسسة النقدية أن تحقق ما رمت إليه من تدجين الشعر ومن وضع حدود له. وكان للإبداع الشعري أن يتجلى خارج هذه المؤسسة، بل خارج كل مؤسسة. وكان تأثير الشعراء في مجال النقد أكبر من تأثير النقاد المختصين، بل كان أهم وأعمق وأغنى، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، أي دون أن يعمدوا إلى وضع مؤلفات في النقد. فلمّا كان النقاد يسعون إلى تحديد الشعر وتقييده بالمقاييس والمعايير،كان الشعراء يعملون على تحريره وإطلاقه في آفاق جديدة.
الحداثة كمؤسسة
هذا في القديم. أما اليوم، أو لنقُلْ في مرحلة الشعر العربي الحديث، كيف هي علاقة الشعراء بالحالة النقدية التي واكبتهم أو واكبوها؟
لا يُسأل شاعر عربي عن حالة النقد في أيامنا إلا ويسارع إلى الشكوى من ضموره أو انحطاطه أو غيابه. ومعظم الشعراء العرب يكتبون النقد لسبب أو لآخر. وهم بذلك يشكّلون جزءا ليس بسيطا من الحالة النقدية التي يشْكون منها، وإن كانوا يُميّزون كتاباتهم عن الدراسات النقدية ذات الطابع الأكاديمي. ومنهم من يترفّع عن الاتصاف بصفة الناقد.
مؤسسة "عمود الشعر" كان لها همّ أساسي أو مركزي، هو تدجين الشعر وإبقاؤه تحت السيطرة
ليس لكتاب الشعر أن يُلقوا المسؤولية عن تقهقر النقد على المختصين به أو المنصرفين إليه. فمسؤوليتهم هم كبيرة في العمل على خلق حركة نقدية فاعلة.
ومن شروط ذلك أن يتحلّوا بالتجرّد والموضوعية، وأن ينبذوا المجاملة والممالأة وتبادل المنافع الإعلامية. والشعراء الذين تنطبق عليهم مثل هذه المواصفات هم اليومَ _ وللأسف _ قليلون جدا، بل نادرون.
لا مفرّ للشاعر من الانخراط في عملية النقد، ناقدا ومنقودا. وهو ناقد لنفسه قبل أن يكون ناقدا لغيره. وإذ لا يستطيع إلا أن يكون مخلصا في النظر إلى تجربته الخاصة، ساعيا إلى تسديدها وتطويرها على الدوام، عليه أن يكون مخلِصا في النظر إلى تجارب الآخَرين، أمينا لقناعاته الفنية دون غيرها. عند ذلك فقط، يساهم الشاعر في خلق حركة نقدية يمكنها أن تطرح على الشعر أسئلتها العميقة والفعالة.
ولكن العمل على خلق حركة نقدية يختلف جوهريا عن إنشاء مؤسسة نقدية. ولنا في بعض التجارب الغربية ما يوضح هذه النقطة. فالشاعر الفرنسي بول فاليري، على سبيل المثل، قدّم في النقد مساهمات كانت بمثابة الإشارات اللماحة، التي استفاد منها النقد الغربي بعامة. وذلك دون أن يكون فاليري صاحب دعوة لإنشاء نظرية نقدية مغلقة، أو بالأحرى لإنشاء مؤسسة. ولعلنا نذكر أيضا الشاعر ت. إس. إليوت الذي عُدّ رائدا للحداثة الشعرية في مرحلة معينة، والذي فضّل منهجا "اتّباعيا" في النقد، أراد به لهذا الأخير أن يكون تابعا للأدب، شارحا ومفسرا ومقوما، وليس منافسا له في الإبداع كما أرادت له بعض الدعوات في اتجاهات نقدية أخرى.
في ما يتعلق بالشعر العربي الحديث، الذي انطلقت حركته منتصف القرن الماضي بما يشبه الانتفاضة على الشعر العمودي، حاول النقد الذي واكبه أن يُنشئ مؤسسة نقدية، تقوم على مفاهيم مستمدة في معظمها من نظريات أو اتجاهات غربية. ولنا في تجربة "جماعة شعر" ما يوضح هذا الأمر. لقد بدأت هذه الجماعة حركتها انطلاقا من الرغبة في تغيير الكتابة الشعرية أو تجديدها، بناء على الآراء والمفاهيم الوافدة، التي راحت الحركة النقدية تتمحور حولها. وما لبثت "حركة شعر" أن راحت تتحول شيئا فشيئا إلى ما يشبه المؤسسة الشعرية- النقدية التي تدعو إلى الكتابة انطلاقا من تحديدات مسبقة. هل نذكر هنا "بيان الحداثة" ليوسف الخال؟ وهل نذكّر ببعض المقالات المبكّرة لأدونيس حول مفهوم الشعر الحديث، وحول كيفية قراءته؟ من ذلك ما نجده في كتاب لأدونيس عنوانه "زمن الشعر". لقد سعى أعضاء الجماعة إلى إقرار المبادئ والمفاهيم في مناقشاتهم التي كانوا يخوضونها في اجتماعاتهم الأسبوعية التي راحوا يعقدونها ابتداء من العام 1957، وعلى صفحات مجلة "شعر" التي بادر يوسف الخال إلى إصدارها بالتعاون مع أدونيس. ومحاضر تلك الاجتماعات صدرت في كتاب عن "دار نلسن" في بيروت.
تصدّعت "جماعة شعر" بعد سنوات من ظهورها، وسلك أعضاؤها مسالك شتى، وظل النقد تائها
في هذه التجربة، لم تكن الكتابات الشعرية قد توفرت بما يكفي لأن تنبثق منها الآراء الفكرية والنقدية. بل على العكس من ذلك، بدا أن الشعر عليه أن ينبثق من الآراء والأفكار والنظريات. وكأن الشعر عليه أن يستجيب لخلفية نظرية هيأتها له "المؤسسة". وكأن هذه الأخيرة أُنشئت لتكون مختبرا أو معملا لإنتاج الشعر. وبالمقارنة مع المؤسسة النقدية العباسية، يمكننا أن نلحظ فارقا واضحا. فهذه الأخيرة سعت إلى تطويع الشعر الذي تجلى خارجها. أما "المؤسسة الشعرية- النقدية" الحديثة فقد سعت إلى توجيه الشعر الذي تُنتجه من داخلها. ولأن الشعر بطبيعته ينفر من المؤسسات على أنواعها، تصدّعت "جماعة شعر" بعد سنوات من ظهورها، وسلك أعضاؤها مسالك شتى، وظل النقد تائها، قاصرا عن مساءلة الشعر مساءلة حقة.
وما زال الأمر كذلك بالنسبة إلى النقد. أما الشعر فأرى أن تجارب متنوعة وغنية ظهرت فيه خلال العقود الماضية، بعد الجيل الأول للحداثة. وهذه التجارب لم تحظ بالاهتمام الذي حظي به الجيل الأول وما زال يحظى به. وبات هنالك من يتحدث عن مرحلتين: الحداثة وما بعد الحداثة. وما زال النقد تائها أو شبه غائب. ومساهمات الشعراء الذين يكتبون المقالات أو المراجعات النقدية لم تفلح حتى الآن في إثارة النقد كي يكون حركة فعالة في مساءلة الشعر وتقويمه.