مرّ ما يزيد قليلا على شهرين منذ أن تولت حكومة حزب "العمال"، بقيادة كير ستارمر، السلطة. ومع ذلك، هناك مؤشرات واضحة على أن المملكة المتحدة ستتبنى نهجا جديدا في التعامل مع القضايا الرئيسة المتعلقة بالسياسة الخارجية تحت قيادته.
فمن نهج المملكة المتحدة تجاه الصراع في غزة إلى الحرب في أوكرانيا، يبدو أن ستارمر ووزير الخارجية ديفيد لامي عازمان على قطع الصلة مع تعامل الإدارة المحافظة السابقة مع قضايا الأمن العالمي الرئيسة.
وعلى مدى الأربعة عشر عاما التي قضاها المحافظون في السلطة، كانت المملكة المتحدة تتماشى إلى حد كبير مع الولايات المتحدة في القضايا الدولية الرئيسة، بدءا من التعامل مع الحرب الأهلية الطويلة في سوريا إلى الصراع الحالي في أوكرانيا بعد الغزو الروسي عام 2022.
وسواء كان زعيم المحافظين من الوسطيين، مثل ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، وأخيرا ريشي سوناك، أو من اليمين المتطرف مثل بوريس جونسون، فقد ظلت السياسة الخارجية البريطانية ثابتة إلى حد كبير خلال فترة حكمهم. وكان الدعم القوي لحلفائها الرئيسين، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وأوكرانيا، أولوية رئيسة للندن.
ومنذ أن حقق حزب "العمال" فوزا ساحقا في الانتخابات العامة التي أجريت في يوليو/تموز الماضي، بات واضحا أن تغييرات كبيرة قد تطرأ على نهج المملكة المتحدة تجاه القضايا الرئيسة المتعلقة بالسياسة الخارجية، ما يمثل قطيعة مع سياسات الإدارة المحافظة السابقة.
أحد الاختلافات الملحوظة التي ظهرت بالفعل هو أن واحدة من أولويات حكومة ستارمر الأولى ستكون إصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بعد الاضطراب الذي تسبب فيه التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
في عهد المحافظين، ركزت المملكة المتحدة على بناء شبكة جديدة من العلاقات التجارية العالمية، مع التركيز على توقيع صفقات تجارية مع آسيا، والشرق الأوسط، وأميركا. أما في ظل قيادة ستارمر، فقد مالت الكفّة بشكل حاسم نحو الاتحاد الأوروبي. حيث أوضح رئيس الوزراء، خلال الاجتماعات الأخيرة مع القادة الأوروبيين الرئيسين مثل المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أنه حريص على إقامة علاقة بناءة أكثر مع الاتحاد الأوروبي بشأن مجموعة من القضايا، بما في ذلك التجارة، والهجرة، والدفاع.
ورغم أن ستارمر استبعد- في الوقت الحالي على الأقل- إمكانية إعادة انضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن رغبته في إقامة علاقات أوثق مع الاتحاد يمكن فهمها في سياق أوسع يتمثل في الجهود المتضافرة التي تبذلها الحكومة البريطانية الجديدة لتوجيه السياسة الخارجية في اتجاه جديد.
وفي الوقت نفسه، تسعى المملكة المتحدة إلى تبنّي نهج مختلف تجاه بعض التحديات الأمنية العالمية الكبرى، خاصة فيما يتعلق باستجابتها للصراعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا.
يبدو أن ستارمر ووزير الخارجية ديفيد لامي عازمان على قطع الصلة مع تعامل الإدارة المحافظة السابقة مع قضايا الأمن العالمي الرئيسة
من أكثر التغييرات المثيرة للجدل التي أجراها ستارمر حتى الآن هو تعامل المملكة المتحدة مع الصراع في غزة، والذي شهد بالفعل تغييرا ملحوظا خلال الشهرين اللذين انقضيا منذ تولي حزب "العمال" السلطة.
جاءت أول إشارة إلى أن حكومة حزب "العمال" الجديدة تعتزم اتباع نهج جديد تجاه الدعم البريطاني الطويل الأمد لإسرائيل عندما أعلن وزير الخارجية ديفيد لامي أن الحكومة لن تعارض بعد الآن جهود المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
في ظل الإدارة المحافظة السابقة، كانت المملكة المتحدة تعارض تحرك المحكمة الجنائية الدولية، حيث جادل ريشي سوناك بأن السعي لإصدار مذكرات توقيف ضد نتنياهو، وكذلك الكثير من قادة "حماس"، لن يُحدث أي فرق على الإطلاق في تحقيق السلام الأوسع في الشرق الأوسط.
إلا أن المملكة المتحدة غيرت موقفها منذ تولي حزب "العمال" السلطة، حيث أعلن لامي، في واحدة من أولى تحركاته كوزير للخارجية، أن بريطانيا تسحب اعتراضاتها على إجراءات المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي.
أدى هذا التحرك إلى توتر في العلاقات بين المملكة المتحدة وإسرائيل، حيث رفض نتنياهو صراحة مقابلة لامي عندما زار القدس الشهر الماضي للحصول على تحديث حول محادثات وقف إطلاق النار في غزة.
ومنذ ذلك الحين، ازدادت حدة التوتر في العلاقات بعد إعلان لامي في وقت سابق من هذا الأسبوع عن تعليق بعض مبيعات الأسلحة لإسرائيل، على أساس وجود خطر واضح في أن تُستخدم المعدات في ارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
أوضح لامي أن المملكة المتحدة ستعلق 30 من بين 350 رخصة تصدير أسلحة إلى إسرائيل، مما سيؤثر على معدات تشمل أجزاء الطائرات المقاتلة، والمروحيات، والطائرات دون طيار.
أثار هذا القرار، الذي أُعلن عنه في اليوم الذي كان الإسرائيليون يدفنون فيه ستة رهائن قتلتهم "حماس" في غزة، رد فعل غاضبا من نتنياهو، الذي وصف الخطوة بأنها "مخزية"، وكتب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي: "هذا القرار المخزي لن يثني عزيمة إسرائيل عن هزيمة (حماس)، المنظمة الإرهابية التي ارتكبت جريمة إبادة وقتلت 1200 شخص في السابع من أكتوبر، بينهم 14 مواطنا بريطانياً".
وأعربت إسرائيل عن استيائها من القرار خلال مقابلة مع وزير إسرائيلي كبير على قناة "بي بي سي"، حيث قال إن القرار "يبعث رسالة خاطئة" ويمثل "خيبة أمل".
كما أثارت الحكومة العمالية الجديدة بعض القلق في كييف، حيث اشتكى الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي من أن إمدادات الأسلحة البريطانية إلى أوكرانيا تتباطأ منذ تولي ستارمر السلطة.
تحت قيادة رئيسي الوزراء المحافظين السابقين بوريس جونسون وريشي سوناك، كانت المملكة المتحدة حليفا قويا لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، حيث قدمت مجموعة من المعدات، من الأسلحة المضادة للدبابات إلى الصواريخ بعيدة المدى، والتي أحدثت فرقا ملموسا في جهود أوكرانيا الحربية.
لذلك، فإن الإيحاء بأن ستارمر يعمل بهدوء على تقليص الدعم البريطاني لأوكرانيا قد تكون له تداعيات خطيرة على جهود الحرب في كييف، خاصة بعد أن اكتسبت القوات الأوكرانية مؤخرا زمام المبادرة إثر هجومها العسكري الناجح في منطقة كورسك الروسية. وردا على ذلك، أكد المتحدث باسم الحكومة البريطانية أن ستارمر مستمر في دعمه "الثابت" لأوكرانيا.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن كلا من إسرائيل وأوكرانيا تشككان علنا في التزام حكومة المملكة المتحدة بالحفاظ على دعم كييف وتل أبيب تشير إلى أن ستارمر مصمم على إعادة توجيه السياسة الخارجية البريطانية في اتجاه مختلف تماما عن السياسات التي انتهجتها الإدارة المحافظة السابقة.