لا يبدو لي أن تجربة الروائية العراقية عالية ممدوح (80 عاما) حظيت بما تستحقه من الدراسة النقدية التي تضيء تجربتها في الكتابة الممتدة لأكثر من نصف قرن. فهي، مثل كثيرين وكثيرات من الكتاب العرب، يقتصر الاحتفاء بهم على دراسة أكاديمية هنا أو مقالة هناك، دون أن يصل هذا الاحتفاء إلى ندوات متخصصة تتناول مجمل أعمالهم.
من يعود إلى أعمال هذه الكاتبة سيجد مادة غنية للقراءة من عدة أوجه، تعكس في جانب منها التحولات الفنية للرواية العربية الحديثة. بالنسبة إليّ، وجدت وأنا أستعيد قراءة رواياتها، أن هناك ملمحين بارزين في تجربتها: ملمح المنفى في إشكاليته الوجودية والإنسانية، وملمح الانزياح الشعري في تشكيل سردياتها. فكتابة عالية ممدوح تبدو خلاصة للمنفى العراقي، ليس فقط ذلك المنفى الذي تعدد في جهات الأرض، بل أيضا ذلك المنفى الذي عاشته الكاتبة في بلدها قبل أن تخرج منه. إنه منفى يتبعها أينما ذهبت، كما تقول ممدوح التي تعيش منذ سنوات في باريس.
انزياح لا يتوقف عند اللغة وإيقاعاتها التصويرية، بل يمضي بعيدا ليصبح انزياحا للرغبة في كل شيء
فالمنفى هنا ليس مجرد الابتعاد عن المكان الذي ولد فيه المرء وعاش طفولته، أو حمل هويته باعتباره موطن آبائه وأجداده، بل هو المنفى الذي يمكن أن يعيشه حتى في وطنه، أو ما يسمى وطنه. إنه اغتراب الفنان أو الكاتب، أو أي إنسان، في وطنه. قارئ روايتي "الولع" (1985) و"حبّات النفتالين" (1986) سيجد فيهما العراق في حالة توتر من خلال شخوصه البسطاء أو أولئك الذين ينتمون إلى الوسطين الثقافي والسياسي. لكن العراق لا يقتصر على هذين العملين، فهو حاضر حتى في روايات المنفى البعيد مثل "محبوبات" و"التشهي" و"الأجنبية" و"التانكي". ففي كل هذه الروايات، يحضر العراق، وربما تحضر عالية نفسها في معظم هذه الأعمال، من خلال شخصية المثقفة الرافضة للتدجين من قبل الزوج أو المجتمع، كما هو الحال مع هدى في "الولع"، وسهيلة في "محبوبات"، وصبيحة في "الغلامة". أما في "الأجنبية"، فتظهر بشكل واضح تجربة الكاتبة المهاجرة في باريس التي تتلقى رسالة عبر قنصلية بلدها العراق تطالبها بالعودة إلى "بيت الطاعة" الزوجية. ومع ذلك، يظهر في هذه الروايات الرجل الصديق والعاشق بقدر ما يحضر الرجل الزوج. ومعهم تتجلى شخصية السياسي الانتهازي والمراوغ، الخاذل والمخذول بالشعارات الكبرى التي جاءت مع الثورات والأيديولوجيات. فنجد شخصيات يسارية تشكو خيباتها أو تفصح عن ماضيها المذل والمهان في معظم هذه الروايات. ورغم محاولة عالية الابتعاد عن ثنائية الذكورة والأنوثة، إلا أن شخصية الرجل تبدو واحدة، باستثناء القلة، فجميعهم لهم الكلمة الأولى، المستبدة، ويطلبون الطاعة من زوجاتهم ويتزوجون ثلاثا أو أربعا (ما عدا الفراطة، حسب تعبير إحدى الشخصيات في "الأجنبية"). فجسد "الرجل يحمل العنف والخطر" إلى جانب ما يحمله من تعدّد وبلبلة، وهو يسعى لامتلاك المرأة وعودتها إلى طاعته "ولو على نقالة". ومن خلال هذه العلائق تتجسّد محنة الإنسان التي تتجلى في تراكمات كثيرة، حيث تصبح "مخلفات الاحتقار والكراهية أشنع من مخلفات القنابل الذرّية".
سيأتي يوم يُعاد فيه الاعتبار الى تجربة عالية ممدوح السردية، سواء في وطنها العراق أو في وطنها السردي
الملمح الثاني الذي أجده واضحا في أعمال عالية ممدوح هو ملمح الانزياح الشعري، الذي لا يظهر فقط من خلال عناوين رواياتها مثل "الولع" و"التشهي" و"الغلامة"، بل يتجلى في كل عبارة أو سطر أو حوار في هذه الروايات. وهو انزياح لا يتوقف عند اللغة وإيقاعاتها التصويرية، بل يمضي بعيدا ليصبح انزياحا للرغبة في كل شيء، في مجمل رغبات الحياة بتفاصيل ملذاتها التي لا نهاية لها. فالكاتبة، مع خبرتها السردية التي تبدو واضحة في مجمل أعمالها والتي تعود بداياتها إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي، لا تكتب ضمن اشتراطات فنية مسبقة، ونجدها تمارس تمردها على القوالب السردية في كل أشكالها، حتى أنها أحيانا تذهب إلى لغة انزياحية تشبه الهذيان، إن لم يكن الهذيان بعينه. في "الغلامة" (2000) مثلا، يبدأ السرد بدعاء "اللهم إنني". ومنه: "اللهم دعني في الطرف الأقصى. بين بين من القصص والغصص كي أتلذذ بالدم والندم، بالغرائز والتهم. اللهم أصفق الأبواب خلفهم، كلهم، جميعهم وبلا استثناء كي يحرم عليّ خبز الانتظار". وإذا كانت روايتا "الولع" و"التشهي" تنتهيان بحرف "و..." كدلالة على استمرار القص أو السرد، فإن رواية "غرام براغماتي" تنتهي بجملة مغلقة، فيما تختتم "الغلامة" بهذا الحوار المفتوح:
"- كلا، لست متفقا معك أستاذ.
لماذا؟
ماذا قلت؟
أنا، أنا، لم أقل شيئا.
وأنت هل قلت شيئا؟
كلاّ، أنا لم أتفوّه بكلمة.
غريب سمعت صوتك.
وأنا أيضا سمعت.
ولكن أستاذ..."
وهو مشهد حواري يذكرنا بالأعمال السردية الكبيرة مثل "الصخب والعنف" لوليم فوكنر. ولعل استخدام عالية ممدوح تقنية تعدّد الأصوات (البوليفونية)، كما في روايتها "الولع"، يضعها في طليعة من اتجهوا نحو التجريب السردي في الكتابة العربية.
أظن أنه سيأتي يوم يُعاد فيه الاعتبار إلى تجربة عالية ممدوح السردية، سواء في وطنها العراق الذي غادرته عام 1982، أو في وطنها السردي الذي لا يعرف حدودا في انزياحاته ورغباته في الحياة.