سير ذاتية وحكايات عن الآباء... بين إعادة الاكتشاف والمحاكمة
الكتابة سبيلا لترميم الماضي والتصالح مع الحاضر
سير ذاتية وحكايات عن الآباء... بين إعادة الاكتشاف والمحاكمة
حظيت كتابة السيرة الذاتية منذ فترة مبكرة بأهمية خاصة في الأدب العربي، وكانت بوابة مهمة للتعرف الى حياة الكتاب والأدباء عن كثب من خلال كتاباتهم واعترافاتهم الخاصة، وطالما جاءت تلك السير بعد مشوار طويل من الكتابة والخبرة والمعرفة بدروب الحياة وتقلباتها، فجاء منها الكثير من النصائح أو التوجيهات الخاصة بالكتابة، أو الكشف عن أسرار وخبرات شخصية مر بها الكتاب وصقلت موهبتهم وجعلت من تلك السير كتابة ذات خصوصية، تدل الأجيال الجديدة إلى كواليس الكتابة وعالمها وما فيها من تقلبات وأسرار وخبايا.
لكن الأمر اختلف إلى حدّ ما في السنوات الأخيرة، فوجدنا نمطا جديدا من الكتابة السيرية لا يحكي فيه الكاتب أو الكاتبة عن ذاته وحياته، وإنما يعود إلى الماضي ليحكي ويسرد ويبحث في حياة "الأب" المبدع والكاتب الكبير الذي ترك بالفعل إرثا إبداعيا كبيرا وربما يكون كتب سيرة ذاتية أو جاء جزء من سيرته في كتابته، ولكنه أصبح غائبا، فيأتي الابن بعد سنوات ليستحضر أجزاء من حياة الأب وسيرته، وتكون تلك السيرة كاشفة عن جانب آخر مختلف لهؤلاء الآباء، وهي في جزء منها استعادة لحضور هذا الأب وأثره وعرفان بالجميل له، أو محاولة أخيرة لمناجاته وبثه بعض الأفكار والشجون، أو يمكن أن يرى فيها القراء أحيانا نوعا من المحاكمة أو العتاب لذلك الأب الجد كما في حالة المصرية سامية محرز.
سامية محرز وإبراهيم ناجي
تعود سامية محرز في كتابها "إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا" الصادر عن "دار الشروق"، لتستعيد تعرفها إلى جدها لأمها ذلك الشاعر الكبير الذي ترك إرثا وأثرا كبيرين في حياتها وفي أسرتها، إذ يقودها عدد من المصادفات إلى العثور على يوميات جدها وعدد من خطاباته ورسائله، فتعود لتتذكر طفولتها، وبداية تعرفها إلى الجد الشاعر الذي تتباهى به الأسرة، ثم تدرس له قصيدة في مقرّر الدراسة وهي قصيدة "العودة" التي لم تحبها في ذلك الوقت لا سيما أنها ابنة المدارس الإنكليزية، وكانت علاقتها باللغة العربية ضعيفة ومقتصرة على التعلم في صفوف الدراسة فحسب، لكنها تجد نفسها فجأة وجها لوجه أمام جدها وتفاجأ بالعثور على مذكراته في شقة خالتها في الولايات المتحدة الأميركية، فتعود إلى ذلك الزمن القديم من أوائل عشرينات القرن الماضي، لترسم صورة كاملة عن ذلك العصر، من البيت والحي الذي عاش فيه إبراهيم ناجي طفولته في شبرا بوسط القاهرة حتى انتقال الأسرة إلى مصر الجديدة، وكيف بقي محتفظا بعيادته في شبرا في المكان الذي شهد طفولته وشبابه.
ترسم سامية محرز صورة كاملة عن ذلك العصر من البيت والحي الذي عاش فيه إبراهيم ناجي طفولته في القاهرة
من مكتبته تبدأ محرز بالحديث عن جدها، ويبدو أن دراستها للأدب والنقد أثّرت كثيرا في طريقة تعاملها مع ذلك الجد الذي لم تره ولكنها سمعت عنه الكثير، ومنحها القدر فرصة ثمينة، "كنزا"، هو دفتر يومياته الذي اكتشفت وجوده بمحض المصادفة في بيت خالتها "ضوحية" في أميركا، لتخوض بنا رحلة شيقة تكشف فيها أسرارا ومعلومات كانت العائلة المحافظة ترى أنه لا ينبغي الخوض فيها، بينما تتعامل معها الحفيدة بشيء من البساطة والتحرر بل لا تجد غضاضة في مناقشتها ونقدها.
هكذا بعد أكثر من خمسين عاما، ورغم الصداقة التي كانت تجمع سامية بخالتها، تكتشف بعد وفاتها مجموعة كراسات ومذكرات بخط يد جدها إبراهيم ناجي فيها الخطابات التي كان يرسلها إلى جدتها أميرة، كما تجد مذكرات يحكي فيها شذرات من حياته بل وعلاقاته الغرامية مع نساء يرمز لهن بالحروف الأولى من أسمائهن، ولكن تبقى ملهمته الأولى (ع.م) محل خلاف طويل بين السيدات، فتأخذ محرز على عاتقها أولا مهمة كشف النقاب عن ملهمته الأشهر جامعة كل الافتراضات والكتابات التي تناولت سيرته والتي حرصت على الكشف عن هوية تلك السيدة، ولا سيما من الشاعر صالح جودت الذي كان يزعم أنه من أقرب أصدقاء ناجي وخازن أسراره، لكنها تكتشف أنه لم يكن بهذه الدرجة من القرب وأن كل ما قاله أو كتبه مجرد اجتهاد شخصي. ويحالف القدر محرز ويجمعها بحفيد السيدة التي ينطبق عليها وصف إبراهيم ناجي حول (ع.م)، لتكتشف أنها السيدة علية الطوير (وليست عنايات الطوير أختها) ابنة جيرانهم، وهي التي تعلمت الفرنسية منذ وقت مبكر في مدارس الليسيه وكانت أصغر من إبراهيم ناجي بعامين، وكانت تساعده في تعلم الفرنسية، وكانت علاقتها به علاقة حب رومانسية ليس أكثر، بل إن علاقة الصداقة بينهما لم تنقطع حتى بعد زواجها.
تتوقف سامية محرز في فصلٍ خاص من الكتاب عند نجومية جدها التي جاءت بعد وفاته، وترصد في فصل شديد التشويق والجمال تفاصيل علاقة الأسرة بذلك الشاعر الذي أصبح راحلا والذي غنّت له السيدة أم كلثوم بعد رحيله بنحو ثلاثة عشر عاما واحدة من أشهر أغانيها هي قصيدة "الأطلال" وكيف جلست وأسرتها لكي تستمع إلى الأغنية، ويحضر حسّها الأدبي والنقدي على الفور في الحكاية لتتوقف عند المصادر المختلفة التي تتحدث عن اختيار أم كلثوم للقصيدة وكيف غنتها، منها مشهد تراه غريبا من مسلسل "أم كلثوم" (إخراج إنعام محمد علي 1999) حيث يخرج الشاعر أحمد رامي ورقة من جيبه فيها قصيدة "الأطلال" ويقول إنه وجدها في شكمجية بيته، ورغم الدور المهم الذي لعبه أحمد رامي في وصول القصيدة إلى أم كلثوم إلا أنها تعترض على طريقة التقديم بهذا الشكل الذي يبدو عابرا، وتفرد الكاتبة مساحة أكبر لحكاية "قصيدة الأطلال" حتى وصلت إلى أم كلثوم، وتستخرج من مذكرات جدها مسودات النص الأصلية وكيف وصلت إلينا في نسختها الأخيرة، ثم كيف اختار منها أحمد رامي بعض الأبيات الملائمة لكي تكون تلك الأغنية التي جعلت من صاحبها شاعر "الأطلال" فحسب.
أحلام مستغانمي و"أصبحت أنت"
وها هي الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي تعود إلى سيرة والدها في كتابها الأخير، "أصبحت أنت" الصادر عن دار "نوفل"، ذلك الأب المناضل (سي الشريف) الذي ربطتها به علاقة صداقة من نوعٍ خاص، ورغم أنه لم يكن كاتبا إلا أنها تعلمت منه الكثير سواء في تعلمها للغة العربية أو بداية قراءتها من مكتبته وحتى ما حملته من قيم ومبادئ وأفكار تخص الوطن والحرية والبحث عن الحياة الأفضل على الدوام، وتسترجع مع ذكرى والدها وبينما هي تخاطبه، عددا من المواقف والأحداث المهمة التي مرت عليهما معا، بدءا بالمكتبة الكبرى التي اشتراها ذات مصادفة كي لا يظن بائع الكتب أنه غير قادر على شراء مكتبة، وكيف كانت تلك المكتبة بوابتها إلى المعرفة من حيث لا تدري، أو عشية استقلال الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وكيف كانت مشاعرهم وهم عائدون فرحين باسترداد الوطن، تلك الفرحة التي لم تدم طويلا، إذ سرعان ما انقلبت إلى صراعات و حروب وانقسامات أودت بالثوار إلى السجون.
تنتقل بنا مستغانمي بين أفكارها حول التحرر الوطني وما صاحبها من خيبات وهزائم لم ينج منها والدها المناضل الكبير
على طريقتها الشاعرية التي عرفناها في ثلاثيتها الشهيرة (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير)، تنتقل بنا مستغانمي في هذه السيرة بين أفكارها حول التحرر الوطني، وما صاحبها من خيبات وهزائم لم ينج منها والدها المناضل الكبير، ثم تعرج على أطراف من سيرتها الشخصية منذ شبابها وبداية محاولاتها في الإذاعة ثم الكتابة، وكيف كان والدها داعما لها بشكل مباشر، وأسفت كثيرا أنه لم يقرأ أيا مما كتبته، لكنها تذكر أنها كانت ترسمه في كل أبطال رواياتها على اختلافهم.
تجمع أحلام في كتابها بين سيرة والدها ونضاله، وبين حكايات متفرقة من علاقتها بأصدقائه من رجال النضال في الجزائر، كما تعرض أطرافا من سيرتها وحكاياتها الشخصية سواء ما ارتبط بوالدها وأثره في حياتها، أو ما تحكيه له بعد وفاته وترى أنه كان سيسعد بمعرفته فتحكيه له على أمل أن تصله تلك الكلمات يوما ما.
ولعل مفاجأة الكتاب/ السيرة للقارئ تأتي في نهاية الكتاب، حيث تعرض الكاتبة على نحو مفاجئ وبسيط في الوقت نفسه تسع رسائل قصيرة تركها والدها لحبيبةٍ مجهولة، رأت فيها إحدى محاولاته للشفاء بعدما أودع مصحة الأمراض العقلية، كتبت هذه الرسائل بالشاعرية نفسها التي تكتب بها رواياتها، ولا تتوقف عند تفاصيلها كثيرا، بل ترى فيها صدى لذلك الرجل الذي رحل وأحب أن يترك له أثرا على هذا النحو الرومانسي البسيط.
نوارة نجم "وانت السبب يابا"
من الكتب التي حظيت باهتمام القراء والنقاد على السواء، كتاب نوارة نجم "وانت السبب يابا" الصادر قبل سنوات عن "دار الكرمة"، وفيه تتحدث عن والدها شاعر العامية الراحل الكبير أحمد فؤاد نجم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ورغم أن "الفاجومي" ـ كان كتب سيرته الذاتية قبل ذلك بسنوات، إلا أن كتاب نوارة جاء ليلقي الضوء على لقطات ومواقف مسكوت عنها من حياته، وجوانب مهمة من علاقتها الشخصية به وعلاقته بأمها الكاتبة صافي ناز كاظم، وكيف كانت تسعى دائما لأن تجمع بينهما، لا سيما بعد فترة غيابها عنه لفترة في العراق (حيث عاشت طفولتها) وكيف كانت تلك الطفلة الصغيرة تتعجّب من ذلك الأب الذي يعرف نجوما مشاهير (مثل عادل إمام وسعيد صالح) ويلتقيهم في بيته البسيط في حوش قدم، ورغم ما كان من الممكن أن يحملها ذلك على الفخر بوالدها إلا أنها لم تكن سعيدة تماما بتلك الشهرة، وتبدو في الكتاب كله، ومن خلال التقاط عدد من المواقف المختلفة في حياتها مع والدها تعاتبه على ما جرى، رغم أنها تؤكد من جهة أخرى أن له عليها آثارا إيجابية عديدة.
يلقي كتاب نوارة الضوء على لقطات ومواقف مسكوت عنها من حياة أحمد فؤاد نجم
من تلك الطفولة المتعثرة التي تفتقد فيها البنت صورة الأب ودورها في حياته، إلى الانغماس تماما في ذلك الدور، بل والتورط معه في بعض المواقف والأحداث التي تسردها نوّارة بتفاصيلها كأنها حدثت لها منذ يومين بالحوارات بين أصدقائه، بردود أفعاله الصادمة في أحيان كثيرة، بروح التمرد التي عاشتها وعاينتها، جرأته في الحق وفي القيام بكل ما يحب، واعتذاره ببساطة واعترافه بالأخطاء مرة أخرى، وبين تربية والدتها الصارمة الشديدة التي لا تقبل الخطأ ولا تسامح فيه بسهولة، ومن خلال الكتاب وفصوله وعرض تلك المواقف نتعرف منها الى صورة شديدة الواقعية لذلك الأب والشاعر الاستثنائي، ويحضر عند الحديث عنه العديد من أصدقائه ومحبيه ومريديه، وتعنون كل فصل من فصول الكتاب بعلاقة والدها بما ستتحدث عنه (بابا والمراهقة، بابا وسيدنا الحسين، بابا والثورة، بابا والجلطات، بابا يحيي الجمهور) وهكذا، ولعل أجمل ما في هذه الكتابة أنها تربط بشكل وطيد بين أحمد فؤاد نجم وأشعاره ومحبيه.
عبده وازن "وغرفة أبي"
على نحو مختلف ومغاير تماما يعود الشاعر اللبناني عبده وازن إلى سيرة والده في "غرفة أبي" الصادر عن منشورات "ضفاف" و"اختلاف"، ليستحضر ذلك الأب الغائب من جهة، ويرثي زمنه الماضي من جهة أخرى. منذ البداية يبدو وازن ناقما على الحاضر مشغولا بالحنين إلى ذلك الزمن "الجميل"، زمن كتابة الرسائل وإرسالها بالبريد، يتوقف عند "البوسطجي" وكيف كان التعامل معه في السينما والأدب، كما يرثي حتى لحال الكتابة بين الورقي والرقمي، يرثي لكل تفاصيل الزمن القديم الجميلة تلك، ويرى نفسه أصبح رغما عنه ابنا لذلك الزمن الجديد وعصر التكنولوجيا الذي يرفضه ولكنه يضطر إلى التعامل معه.
يعود عبده وازن إلى سيرة والده ليستحضر ذلك الأب الغائب من جهة، ويرثي زمنه الماضي من جهة أخرى
بين كتابته رسالة طويلة إلى والده يسعى من خلالها إلى استحضار وجوده فعليا، وبين أفكاره الخاصة ككاتب يتذكر مع كل فصل وفقرة عددا من المواضيع الخاصة بتلك الكتابة، فيستحضر الكتب والروايات التي تحدث فيها الكتّاب عن آبائهم بدءا بدوستويفسكي وبول أوستر، حتى سهيل إدريس وإدوارد سعيد في مذكراتهم كما يشير إلى أبي العلاء المعري وأورهان باموق ، حتى يصل إلى أكثر علاقة معقدة بين الأب والابن في علاقة المسيح بأبيه، ويتأمل تلك العلاقات والأفكار كلها بأبعادها المختلفة، ويتحدث عن علاقته بالله، ويجعله ذلك يتذكر علاقته بكتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" وكيف كان كتابا صادما له وهو في مقتبل عمره، وتتناسل الأفكار في ذهن الكاتب عبر قلمه فينتقل إلى الحديث عن آدم أبي البشر وعلاقته الأولى الشديدة الخصوصية بالإله الخالق، وهكذا يتنقل في متاهة الأفكار بحثا عن ذلك الأب الغائب.
يستحضر وازن أباه رغم غيابه، ورغم أنه لم يعش معه طويلا، بل يسعى لاستحضار أخباره ومعلوماته من خلال والدته وأصدقائه وحكاياتهم عنه، الصور التي تركها وذكريات كل صورة، ويذكرنا بين كل فصل وفكرة أن هذه الكتابة موجهة إلى أبيه في الأساس، ويشير أكثر من مرة إلى أنه يفعل ذلك رغم إدراكه التام أن هذه الكتابة لن تصل إليه، ولكنها عزاؤه الوحيد للتعبير عن غياب والده، حتى لتبدو كتابته تلك بابا يتنقل فيه بين الذكريات المتعلقة بطفولته وشبابه حينا وطريقة للتعبير عن أفكاره التي لم يكن له أن يتحدث عنها أو يتناولها إلا في علاقتها بأبيه، الذي لا يزال يشعر بافتقادٍ شديد له، ساعيا إلى استحضار صفاته عبر حكايات أمه وأقربائه، تلك الصفات التي كان أبرزها "الطيبة" التي يسعى الابن اليوم لمقاومتها، لا سيما أنه يشعر أنها ورطته في الكثير من المشكلات، بينما تفيض الكتابة بعد ذلك بعدد من الاعترافات والأسرار الحميمة حتى أنه يحكي لأبيه الغائب عن علاقاته الجنسية ووجهة نظره في الجنس والحب والعلاقة بينهما.
يحضر الحديث عن الموت بين ثنايا تلك الذكريات، ويتذكر الكاتب يوم وفاة والده وتلك الطقوس الخاصة التي كانت وقت جنازته، وكيف اختفى الكثير منها في أيامه الحالية، لا سيما بعد الحرب الأهلية اللبنانية وتكاثر عدد الموتى بشكل جعل الطقوس الخاصة بالموت رفاهية لا يمتلكها الكثيرون، يتحدث عن الحرب أيضا التي يعتبرها قدرا لا فرار منه، يؤثر عليه وعلى تداعيات ذكرياته.
ندى الحائك و"العزيز"
ومن السعودية تكتب الروائية ندى يحيى الحائك عن والدها في كتاب "العزيز" الصادر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، وذلك بعد صدمة فقده. كتابة تفيض بالألم والحزن رغم سعيها للتجاوز، تناجيه وتحكي له عبر سطور الكتاب ورسائله طرفا مما ترك الدنيا عليه بعد رحيله، ليس هذا فحسب بل تحمل على عاتقها مهمة تعريف الناس بذلك الرجل المعلم الذي لم يكن فارقا في حياتها فحسب، بل في حياة كل من حوله.
تستعيد الحائك علاقتها بوالدها من خلال سيرته وعرض تجربته في الحياة وأطراف من علاقته الخاصة بأصدقائه وطلابه
رغم ما تبدو عليه كتابة الحايك من كونها مرثية طويلة لوالدها، إلا أنها من جهة أخرى تعبّر عن تلك الرغبة والحالة الشديدة الخصوصية التي تربط الابنة بوالدها، لا سيما إذا كان رجلا مؤثرا اعتبرته أخا وصديقا، وأثّر بفعالية في تكوينها وتعليمها الكتابة والأدب، في مجتمع كان يقيد المرأة ويمنعها من الخروج من المنزل، ولكن بدا يحيى الحايك على عكس ذلك كله، فهو فخور ببناته يلاطفهن ويلاعبهن ويساعدهن على التحصيل الدراسي، ويحلم باليوم الذي سيخرجن فيه للعمل، ولكن القدر كان قاسيا على تلك الأسرة إذ سرعان ما أصيب بمرض في كبده أدّى إلى وفاته.
تستعيد الحايك علاقتها بوالدها من خلال سيرته وعرض تجربته في الحياة وأطراف من علاقته الخاصة بأصدقائه وطلابه، فقد كان الراحل معلما لجيل من التلاميذ بقوا على عهد الوفاء به حتى آخر أيام حياته، وكان ذلك أكبر مصادر فخر البنت وأبيها على السواء، تتذكر في حكايتها عنه كيف كان يجمعهم ويلاطفهم، وكيف كان حريصا على تعليم كل أقربائه، حتى ابن أخيه الذي لم يكن مهتما بالتعليم، كان يحفزه لمواصلة التعليم حتى يتمكن من الالتحاق بكلية الصيدلة، وهكذا تذكر أيضا كيف بقيت سيرته طيبة عند زملائه من المدرسين بعد رحيله.
بين ذكريات والدها وخواطرها وتفكيرها حول الموت وآلام الفراق تدور سيرة "العزيز"، وتطل من خلاله على عدد من الحكايات الخاصة والعامة سواء المتعلقة بوالدها بشكل شخصي، أو بأشخاص ومواقف يذكرونها بما كان يقوله أو يفعله معها، وعلى مدار عامين تقريبا كانت كتابة ندى لتلك المذكرات ومحاولة رصدها وتوثيقها لبعض آثاره، حتى تبقى سيرته لأحفاده ومحبيه من بعده.