النظام السياسي الراهن في العراق شديد الغرابة، يجمع كتلة من الأدوات والمؤسسات والممارسات والمواثيق المنتمية شكلا وجوهرا إلى الأنظمة الديمقراطية، وأخرى مناهضة ومضادة تماما لأي نظام أو قيم ديمقراطية، ومع ذلك يتعايشان، دوم صِدام حتى الآن. لكن أولا دون بحث فكري وسياسي عن جذور ومنابت كُلٍ منهما، ثمة مثلا انتخابات عامة حُرة وسرية، وبرلمان بدورات متعددة، وذو سمة تمثيلية للقواعد الاجتماعية، وحكومة منتخبة من البرلمان وتوافقية في رأس هرم السلطة، وحريات إعلامية معقولة وأحزاب نشطة، ونظام فيدرالي، وجهات رقابية فاعلة، وتغيير واضح ودوري في رأس السلطة ومؤسساتها العليا، ونمو اقتصادي واجتماعي مستدام.
قُبالة ذلك وبالتوازي معه، فإن العراق بلدٌ مُتخم بالميليشيات، بعضها أقوى وأكثر سطوة من أجهزة الأمن الرسمية، وهناك هيمنة مريعة لقادة الفصائل والأحزاب السياسية على خيرات ومقدرات مناطق سيطرتهم، وسطوة واضحة لرجال الدين ومؤسساتهم على الفضاء العام، واستشراء للفساد هو في الحقيقة "نهب عام"، وفيض من الممارسات الطائفية المُغذاة من أعلى مؤسسات ورجال الدولة، ونفور قومي لا يلبث أن ينفجر كل حين، وزيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء الجدد، واقتصاد ريعي يعتمد على تصدير النفط فحسب، وارتباط وولاء واضح لشخصيات وتيارات سياسية لدول أخرى، ومراتب دُنيا في عدد من التصنيفات العالمية، من قوة جواز السفر وصولا لحماية البيئة وحقوق النساء ونظافة المدن والشعور بالأمان، ومثلها أشياء لا تُعد ولا يُمكن تخيلها في أي نظام ديمقراطي.
المشروع السياسي الكبير في العراق للولايات المتحدة الأميركية كان مصدرا لكل ممارسة أو مؤسسة أو قيمة ديمقراطية في التجربة العراقية الحديثة، ببُعدها الإجرائي على الأقل
لم يحدث ويستقر العراق ونظامه السياسي على هذه الثنائية المتناقضة صدفة، بل كان نتيجة طبيعية لتراكب الفاعلين الاثنين الأكثر حضورا وتأثيرا في المشهد العراقي طوال العقدين الماضيين، الأميركي والإيراني.
وفي واحد من أهم أبعاده، كان الصراع بين الفاعلين الأميركي والإيراني على العراق، صراعا بين هذين المسارين/المشروعين ومفرزاتهما، وتعايشهما الإكراهي، وهو واحد من نتائج عدم قُدرة أي منهما على تحطيم واستبعاد الآخر تماما. لكن إغفال النُخبة السياسية والفكرية العراقية لذلك الفرز، يساعد في خلط الأوراق، وعدم وعي ما يحدث في العراق حسب منابته الأولية.
المشروع السياسي الكبير في العراق للولايات المتحدة الأميركية كان مصدرا لكل ممارسة أو مؤسسة أو قيمة ديمقراطية في التجربة العراقية الحديثة، ببُعدها الإجرائي على الأقل، أي الانتخابات العامة الحُرة، وببعض أدواتها ومؤسساتها وملامحها القيمية على الأكثر. فخلال أقل من سبع سنوات (2003-2010) من الاحتلال الأميركي للعراق، وعلى الرغم من كل الوضع الأمني القاهر، فرضت الولايات المتحدة ونفذت خمس جولات اقتراع وانتخاب عامة، حُرة وذات نتائج، وهي انتخابات الجمعية الوطنية الانتقالية (2005) واقتراع الاستفتاء على الدستور (2005) وانتخابات البرلمان الأول (2005) وانتخابات مجالس المحافظات (2005) وانتخابات مجالس المحافظات (2009) وانتخابات البرلمان الثاني (2010). ومثلها انتخابات برلمانية ومحلية خاصة بإقليم كردستان، وأخرى لا تُعد خاصة بالنقابات والبلديات والجمعيات المدنية والأهلية.
حدث ذلك في بلد لم يكن قد شهد انتخابات حقيقية منذ نصف قرنٍ تقريبا، في مجتمع كان معزولا عن العالم الخارجي، وشهد واحدة من أعتى الديكتاتوريات، وحروبا طائفية، ومواجهات قومية مريعة.
خلال ذات السياق، كانت الولايات المتحدة قد منحت مبالغ مالية طائلة، من الميزانية الأميركية وعلى شكل مساعدات ومنح مالية، لمنظمات المجتمع المدني والاتحادات النقابية والتجمعات الثقافية والحرفية والرياضية العراقية والمهنية العراقية، بغية تنميتها ودفعها لأن تكون رافعة للنظام الديمقراطي الوليد، وأصدر الحاكم الأميركي بول بريمر مجموعة من القرارات والقوانين الحديثة والداعمة للبنيان الديمقراطي.
هل لأحد أن ينكر أن إيران أسست المئات من الفصائل المسلحة والتنظيمات المناهضة لأية ممارسة أو قيمة ديمقراطية؟
صحيح، كان للولايات المتحدة الكثير من الأفعال التي كانت فعليا خطايا سياسية وجرائم جنائية، لكنها كانت على أطراف هذا المشروع الكبير، ونتيجة سوء أداء القادة الميدانيين. إذ لم تفعل وتنتج الولايات المتحدة هذه الممارسات والأنظمة والمؤسسات الديمقراطية لأنها "قوة خيرة"، بل لأن ذلك مصلحتها أولا، ولأنها كذلك كدولة ونظام سياسي، وبذا لا تستطيع أن تتخيل نظاما سياسيا تحت إمرتها إلا كذلك، مثلما فعلت في ألمانيا واليابان قبل عقود.
طوال المدة نفسها، هل لأحد أن ينكر أن إيران كانت تؤسس المئات من الفصائل المسلحة والتنظيمات المناهضة لأية ممارسة أو قيمة ديمقراطية؟ تغذي إيران الطائفية وتحول العراق إلى كيان تابع لأجندتها، تعادي وتفكك كل عُرى الفاعلية الديمقراطية، من اقتصاد حر وإنتاجي، وتنظيمات مدنية وحقوقية ونسوية، وصولا لمناهضة الأحزاب العابرة للطوائف والقوميات، وليس انتهاء بإغراق العراق في بحر من العنف الذي لا طائل منه، تحت تسميات ويافطات براقة، وإلى جانب كل ذلك تأمين رعاية لكل الشخصيات والمؤسسات الغارقة في الفساد والنهب العام، والضغط لتغيير القوانين والتفسيرات الدستورية، كما حدث بعد انتخابات عام 2010.
ليس في تقسيم ورؤية الأحوال العراقية حسب ذلك التصنيف والمسارات أية رغبة في مدح وتمجيد الأفعال الأميركية، ولا حتى القفز فوق الخطايا التي ارتكبتها، بل فقط إعادة وعي وفهم هذا التموضع الاستثنائي للنظام السياسي العراقي، الذي يبدو مصيره واضحا ومرهونا بالمزاحمة الأميركية الإيرانية، أو ما يُفترض أنها مزاحمة أميركية إيرانية.