تخيل لو أن الثلاثة المفتونين بعالم الحيوان من القدماء، أرسطو والجاحظ والدميري، أدركوا زماننا ووجدوا تردد قناة من القنوات التي ترصد حياة الحيوانات على مدى الأربع وعشرين ساعة. يبدو لي أنه سيكون هناك صراع يومي على الريموت كونترول بين الثلاثة. ما الذي فتنهم بحياة الحيوان؟ هل السبب أن رصد حياة الحيوان يخبرنا بأشياء عن الإنسان؟ قد يكون لهذا دور كبير.
من جهة فلسفية محضة: ما الذي يجعلنا نحن البشر أفضل من الحيوانات الأخرى؟ لم يتوقف الفلاسفة قط عن تكرار الجواب، إنه العقل والقدرة على ضبط النفس. كان ثمة تواطؤ على أن الحيوان لا عقل له ولا إحساس، ويقال إن بعض تلاميذ ديكارت كانوا يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي، لكي يثبتوا نظرية "أستاذهم المعصوم من الخطأ" في أن الحيوانات لا تشعر.
نحن نملك الوعي والعقل والحرية، والحيوانات لا تملك شيئا من هذه الأشياء. نحن كائنات عقلانية والحيوانات ليست كذلك. هذه فكرة لا تزال تستعمل. ومنها وصل الغربيون بعد تمدّد البحث إلى القول بأن هناك العقلانيين وهم من يتصف بالوعي الذاتي والعقلانية والحرية، وبأن هناك البدائيين الذين تحركهم رغبات وحشية.
يبدو أن الهدف الحقيقي لأرسطو ليس إثبات تفوق البشر على الحيوانات، بل تفوق شعبه على بقية الشعوب
باختصار، بعضنا حيوانات وبعضنا ليسوا كذلك، وهذا ما كان مبررا مفيدا في القرون الماضية للاستعمار والاستعباد والعنصرية وسخرة البشر.
هذا التبرير قديم، فقد كتب أرسطو يقول إن الاختلاف بين الروح والجسد، أو بين البشر والحيوانات، يؤدّي إلى أن الطبقة الدنيا هي بطبيعتها عبيد. ثم يخلص إلى أنه من الأفضل لهم، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الطبقات الدنيا، أن يكونوا تحت الحكم. وهكذا يعالج أرسطو كل تسلسل هرمي بشري بالقياس إلى علاقة الناس بالحيوانات. ويبدو أن الهدف الحقيقي لأرسطو ليس إثبات تفوق البشر على الحيوانات، بل تفوق شعبه على بقية الشعوب. مثل هذا ستجده عند أستاذه أفلاطون وعند توماس هوبز في حديثه عن الهنود الحمر، من كتابه "التنين".
لكن يبدو أن البشر ليسوا على ثقة تامة بهذه الخلاصة، ولذلك لا يسأمون من تكرارها لأنفسهم. لا شك أن خوفنا من التشابه مع الحيوان له أسباب، فهي ليست كالعالم النباتي، بل نسيج لحمها يشبه نسيج لحمنا، خصوصا الخنزير، ولها أيدٍ وأرجلٍ مثلنا، ولها جهاز هضمي، وجهاز تنفسي أيضا وتمرض وتموت مثلنا. ويوجد في رؤوسها دماغ.
مع ذلك، هناك رفض للشبه مع الحيوان، ولذلك كتب إيمانويل كانط في "نقد العقل العملي": "يكشف لي القانون الأخلاقي عن حياة مستقلة عن الحيوانية". ولكن الحيوانات هي الأخرى تملك أخلاقا. ألم تر كيف أن فرس النهر يهاجم الحيوانات المفترسة ويحمي الظباء الضعيفة منها؟ ألم تر كيف أن الإبل تلوى أعناقها حول أصحابها إعلانا للحب والوفاء؟ ألم تسمع بحقد البعير الذي قد ينتقم من ضربك له بعد عقود؟ الحياة الأخلاقية واضحة في حياة الحيوان ومنها حادثة أنثى الخفاش التي ساعدت أنثى خفاش أخرى في الولادة. ذكر الواقعة عالِم البيولوجيا توماس كونز في مجلة "علم الحيوان".
هذا لن يمنعنا من إثبات نوع من الوعي لدى الحيوانات، بالإضافة إلى الحياة الأخلاقية، والقدرة على الحب والكره
لكن كيف يمكن أن نفهم الحيوان؟ هناك من يقول، مثل تشومسكي، إن الحيوانات لا تملك لغة. بغض النظر عن ذلك، نحن لا نعرف على وجه اليقين أنها لا تملك لغة خاصة خفية علينا. لا حلّ يؤدي إلى شيء من الفهم إلا بالرجوع إلى المدرسة السلوكية (واطسون وسكينر) التي تؤمن بإمكان دراسة السلوك الخارجي بطريقة منهجية دون النظر في الحالات الذهنية الداخلية. تلك المدرسة التي لا نكف عن انتقادها هي هنا الملجأ الوحيد لشيء من فهم سلوك الحيوان.
تعيش الحيوانات، خصوصا تلك التي لا تملك مخالب، حالة قلق دائمة، فهي تسعى في كل يوم لكي تأكل وتشرب دون أن تجد رقبتها كُسرت بيد حيوان مفترس سيلتهمها حية. الحيوانات المفترسة بدورها تعيش قلق الموت من الجوع، أو أن تصاب بكسر في أحد الأطراف أثناء عملية صيد، مما سيحولها إلى فريسة سهلة لحيوانات مفترسة أخرى، فقد تقع الأسود المكسورة فريسة للضباع. ولن يفيد الحيوان المصاب أن له أخوة أو أبناء، بل سيتركه أخوته ليموت إن لم يأكلوه هم. هذا بالضبط ما كان يفعله البشر مع أقربائهم عندما يصابون بأمراض خطيرة معدية، قبل تطور الطب والدولة.
من جهة أخرى، تملك الحيوانات العاطفة، فهي تحب وتكره وتحقد، وفي أفرادها الشجاع والجبان، فقد ترى الغزال الأم وهي تقاتل لحماية أطفالها ضد وحوش كاسرة، وقد ترى الغزال الأم الأخرى لا تفعل ذلك.
لا شك أن وعي الحيوانات ليس في مستوى وعي الإنسان، وإلا لرأيناها تشيد مراكز للبحوث وتنشئ المستشفيات وتؤلف الكتب، لكن هذا لن يمنعنا من إثبات نوع من الوعي لديها، نوع من الذكاء، بالإضافة إلى الحياة الأخلاقية، والقدرة على الحب والكره.