في كتابها الصادر حديثا (2024) عن دار "ريفر هيد بوكس" (بنغوين/راندوم هاوس) بعنوان "خريطة لأطلال المستقبل، عن الحدود والانتماء" تفكّك الكاتبة الأميركية من أصل يوناني لورين ماركام الأسطورة التي نسجها الغرب عن نفسه بأنه واحة الديمقراطية والحريات والحياة السعيدة والفرص الاقتصادية، وتقتطف ما قاله جوزيف كامبل كدليل يقودها في رحلتها البحثية. فقد كتب جوزيف كامبل قائلا إن الوظيفة الرئيسة للأساطير هي أن تمدنا دوما برموز تساعد الروح الإنسانية في سفرها نحو المجهول، وتُعد هذه الأساطير نقيض الأوهام والأخيلة البشرية الأخرى التي تحاول أن تشدنا إلى الخلف. بهذا المعنى، تصبح الأساطير حكايات تكوينية تعكس من نحن وتُوجِّهنا في حياتنا، عمليا وأخلاقيا، في المكان الذي نكون فيه.
إلا أن هناك معنى آخر للأسطورة ألا وهو "الاختلاق" و"الخداع"، ذلك أن بعض أنواع الخداع تُصَنَّع إراديا وينسجها، أو يسعى إليها، رجال السلطة بما أن هذا صار أكثر سهولة في عهد الدولة القومية، وخاصة في ظل التطور الإعلامي الهائل. وتنشأ هذه الأساطير، في حالات أخرى، بسبب الخلل في التوازن في النظام البيئي في لحظة معينة أو من خوف من الخسارة أو الفقدان يولّد رغبة بأن يكون شيء ما غير الواقع المعيش صحيحا - كما تقول ماركام - وتمكن قراءة هذه الأنواع من الأساطير بوصفها رثاء قويا، والتي عوضا عن أن "تحمل الروح الإنسانية إلى الأمام"، فإنها تعيدها إلى زمن متخيّل من النقاء القومي والعرقي المولّد للعنصرية، وهذا أحد الأساسات التي انبنت عليها الهوية العرقية البيضاء المعادية والرافضة للاجئين والتي ألهمت تشكيل جماعات مسلحة من سكان المناطق الحدودية المحليين لمنع عبورهم، وفي بعض الأحيان لتصفيتهم كما حدث مثلا مع أقرباء الروائية الأميركية جينين كمنز مؤلفة رواية "التراب الأميركي" الذين قُتلوا ورُموا من فوق أحد الجسور في الولايات المتحدة في سياق من العنف والحقد العنصري وكراهية الآخر التي يغذيها اليمين.
تحاول ماركام في "خريطة لأطلال المستقبل" أن تواجه بشكل مباشر هذه الأساطير كصحافية قبل أي شيء آخر، ولهذا انطلقت في رحلة بحث إلى اليونان حيث كلّفتها مجلة بكتابة تحقيق استقصائي عن حريق افتُعل في مخيم موريا للاجئين في جزيرة ليسبوس وأدى إلى تدميره.
يقوم الكتاب على تعدّد أصوات السرد التي تلقي المزيد من الضوء على إحدى أشنع مآسي التاريخ الحديث
يروي الكتاب الحكاية المأساوية للفتى علي سيد الذي غادر أفغانستان في سن الثالثة عشرة إلى إيران وحين لم يعثر على عمل فيها سافر إلى تركيا ومن هناك عبر بحر إيجه عن طريق مهربين بعد أن اشتغل طويلا كي يجمع مبلغ ألف يورو يسدد به أجر نقله في زورق كان معرضا للغرق طوال الوقت بسبب الحمولة الزائدة حيث تكدس طالبو اللجوء فيه بعضهم فوق بعض، وفي النهاية حين وصل الزورق كانت بانتظاره دورية حرس حدود يونانية نقلت ركابه إلى مخيم موريا في جزيرة ليسبوس.
قصص داخل قصة
تروي المؤلفة عدة قصص داخل القصة الواحدة، مما يجعل كتابها قائما على تعدد أصوات السرد التي تلقي المزيد من الضوء على إحدى أشنع مآسي التاريخ الحديث، حيث كانت جثث الغرقى من اللاجئين تطفو وتُطرح على الشواطئ اليونانية. ولم يفت المؤلفة أن تذكر قصة السوري إيلان الكردي الذي غرق وعُثر على جثته على الشاطئ، وأطفال آخرين وخاصة قصة الطفل السوري ذي الخمسة عشر ربيعا التي روتها لها أميليا كوبر الموظفة في المركز القانوني في ليسبوس وذكرت أنه ناداها من وراء الأسلاك الشائكة قائلا: "أخبري ماما ميركل ما الذي يحدث لنا هنا!"، وعقبت أميليا أن ذلك الفتى المسكين كان يجهل تماما ما الذي سيحدث له، وأنه سيُسحق. وتورد المؤلفة إحصاءات تكشف عن الواقع المرير الناجم عن الاكتظاظ في مخيمات اللجوء. فبحسب معلومات من منظمات طبية موثوقة تعود إلى 2019 خُصص حمّام واحد لكل 506 أشخاص في مخيم موريا، أما في مخيم جزيرة راموس فقد كان كل 300 شخص يستخدمون مرحاضا واحدا وارتفعت الأمراض العقلية بنسبة 40 في المئة.
يغوص السرد في تاريخ الكاتبة الشخصي وسياقها العائلي وفي التاريخ الأوروبي من ثم يتحول إلى غوص في تاريخ الآخرين القادمين من بلدان أخرى وتتمحور تفاصيل الكتاب حول قصة الحريق الذي دمر مخيم اللاجئين في موريا وتتفرّع عنه. وتذكر المؤلفة نزاعات دارت في أوساط اللاجئين والتي كانت أحيانا بين عصابات متنافسة وفي أحيان أخرى بين مجموعات من خلفيات طائفية وإثنية مختلفة. وفوجئ علي، كما قال للمؤلفة، حين اكتشف أن الصراعات الإثنية من وطنه قد لاحقته من خلال مجموعة لاجئين من شعب الهزارة عاملته كأنه عدو بسبب خلفيته إذ كان من الواضح أن المصير المشترك للاجئين لم يولّد إحساسا بالتضامن كافيا لتجاوز الماضي وصراعاته الإثنية والطائفية وربما كان السبب هو الظروف الوحشية وغير الإنسانية التي يعيشون فيها.
الغرب قصة مفبركة
لا يسرد الكتاب حكاية المهاجرين المأساوية وما حدث في مخيم موريا فحسب بل يعود إلى التاريخ كي يكشف أن الغرب ليس إلا قصة مفبركة وأن فكرة "الثقافة الغربية" لم تنشأ إلا في فترة الحرب الباردة، ذلك أن الهوية الغربية أسطورة مخترعة لأسباب أيديولوجية، وواصلت المجتمعات التي يهيمن عليها البيض النظر إلى نفسها كقصة أيديولوجية قامت بحسب المؤرخ كوامي أنطوني أبياه، في أوج الحرب الباردة، بصياغة سردية مهيبة حول الديمقراطية الأثينية والماغنا غارتا (الميثاق العظيم) والثورة الكوبرنيكية وهلمّ جرا. وفي عملية التخيل الأسطورية هذه صار الغرب فرديا وديمقراطيا ومتحرر الذهن ومتسامحا وتقدميا وعقلانيا وعلميا، ويشكل هذا استثناء لأن أوروبا لم تكن هكذا من قبل. وترى لورين ماركام أنه حتى فكرة الهوية الأوروبية أسطورة وأن الأوروبيين لم يباشروا التفكير بأنفسهم على أن لهم هوية أوروبية إلا في تعارض مع المسلمين في جنوب أوروبا وشرقها. وصار هذا الغرب، الذي هو أسطورة مخترعة، منغلقا داخل شرنقة هوية بيضاء كارهة للآخر. وتعقد المؤلفة مقارنة بين حاضر اليونان العنصري الملوّن بالبياض الغربي المنغلق وماضيها المنفتح.
كان من الواضح أن المصير المشترك للاجئين لم يولّد إحساسا بالتضامن كافيا لتجاوز الماضي وصراعاته الإثنية والطائفية
ذلك أن اليونانيين آمنوا في الماضي بأن الواجب الأخلاقي للدولة يقتضي تقديم الملاذ لكل من تكون حياته معرضة للخطر في مكان آخر، وقدّم اليونانيون أيضا الفرصة للجوء السياسي لأن السياسيين كانوا يخشون غضب الآلهة والناس العاديين إذا لم يؤدوا هذا الواجب تجاه الآخر. كان اللجوء مفهوما جوهريا في صلب الديمقراطيات الأولى وكلمة لجوءAsylum مشتقة من كلمة Asulia اليونانية التي تشير إلى الحماية التي تقدمها الآلهة.
أما في العصر الحديث فقد تشكلت الهوية البيضاء العنصرية في اليونان على أساس خيانة اليوناني لذاته ولقيمه الثقافية المؤسسة وتحولت إلى سلطة بياض عنصرية تقود السياسيين واليمين المتطرف المعادي للمهاجرين، وتجلّت هذه السلطة في حجز اللاجئين في ظروف غير إنسانية وقطع الطرقات لمنعهم من الوصول إلى المدن، كما تجلت في مخيم موريا بتلفيق تهمة إشعال الحريق ضد ستة لاجئين أفغان وبالتالي اعتقالهم والزجّ بهم في السجن بعد محاكمة صورية كأنهم عوملوا كأكباش فداء. وهكذا فإن مأساة الفتى الأفغاني علي سيد تضاعفت حين رفضت السلطات اليونانية أن تسجله كطفل رغم أنه أكد لها أن عمره 16 عاما لكنهم اتهموه بالكذب ورفضوا ادعاءه بأن الأطفال الأفغان يبدون أكبر من سنهم بكثير بسبب معاناتهم، وسجلوا عمره 18 عاما وحرموه من الامتيازات التي يتمتع بها الأطفال، على قلّتها، ورُمي وسط البالغين في خيمة مكتظة وكانت صيحات الاستقبال التي رحبت بالقادمين الجدد إلى مخيم موريا كافية للتعبير عن تفاصيل تحتاج إلى صفحات كثيرة: أهلا بكم في الجحيم!
حريق موريا
أما الحادثة المعبرة عن الوضع المتردي الذي وصل إليه البشر وعن انعدام إنسانيتهم هو أنه حين شبّ الحريق في المخيم الذي يأوي أحد عشر ألف لاجئ والمخصص لثلاثة آلاف فقط قامت الشرطة اليونانية وجماعات اليمين المتطرف بقطع الطرقات إلى المدن الأخرى وإجبار آلاف اللاجئين على البقاء في العراء أياما كثيرة من دون شراب أو طعام أو دواء، وحين حاولت فتاة أفغانية حرق نفسها احتجاجا اعتقلتها السلطات اليونانية بطريقة وحشية وزجّت بها في السجن.
واصلت المجتمعات التي يهيمن عليها البيض النظر إلى نفسها كقصة أيديولوجية قامت في أوج الحرب الباردة
صار حريق مخيم موريا حمّال أوجهٍ ونُسجت حوله حكايات تشير إلى أسباب أخرى مركّبة وملفقة لها علاقة بالمكوّن الثقافي أكثر مما تشير إلى حقيقة ما حدث. وتطرح الكاتبة السؤال التالي: من أشعل النار في مخيم موريا؟ وتجيب بأن النظريات حول الفاعلين متعددة: فقد قيل إن اللاجئين أشعلوها لأنهم أرادوا تدمير هذا المخيم - السجن، وأشيع أن الأفغان يقفون وراء الحريق بحسب بعض العرب والأفارقة، واتُهم العرب بإضرامه من قبل بعض الأفغان. بينما ادعى آخرون أن الفاشيين أشعلوا النار بما أن لهم سوابق وقاموا بحرق مركز إيواء على الطرف الشمالي للجزيرة منذ بضع سنوات لتخليص الجزيرة من اللاجئين. أما اليسار اليوناني فقد اتهم الحكومة اليمينية بإحراق المخيم لأنها تريد، مثلها مثل فئات اليمين المتطرف، أن تتحمل اليونان كلها وأوروبا عبء توطين اللاجئين الذين يواصلون الفرار من نيران الحروب والعنف في بلدانهم وعبور بحر إيجه. وأشاع البعض أن إحدى المنظمات غير الحكومية أشعلت النار إما لإغلاق المخيم أو للحصول على مزيد من التمويل. وذهب آخرون إلى أن النار ناجمة عن حادثة عرضية. إلا أن هذه الفرضيات كلها كانت تفتقر للأدلة ورغم ذلك صرح وزير الهجرة اليوناني أن الحكومة عثرت على الفاعلين واعتقل ستة لاجئين أفغان كان بينهم علي سيد لُفقت ضدهم تهمة إشعال الحريق.
كانت قصة موريا بالنسبة إلى المؤلفة قصة مذهلة عن الظلم ولم تكن معروفة خارج أوروبا وهي لا تتحدث عن الحريق واعتقال المشتبه بهم في إضرامه فحسب، بل تكشف أيضا حقائق أعمق حول سمّيّة الحدود المعاصرة وممارسات الإقصاء والعزل، وأسطورة البياض أو الصفاء العرقي، وهذا ما دفع المؤلفة إلى التعمق أكثر من أجل فهم التداخل بين الهجرة والأسطورة والذاكرة في أسرتها وفي العالم الأوسع.
آليات الحنين
تقول الكاتبة إن قصة مخيم موريا محورية لاستقصائها لآليات الحنين والإقصاء والبياض في عالم صار مثقلا بالحدود، وهي قصة عن تجريم الهجرة المعاصرة لكنها أيضا عن أهمية وقيمة الهجرة في الزمن القديم. وتشير المؤلفة إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن الطريقة التي نروي بها قصصنا تعرّف فرديا وجمعيا الأيديولوجيا التي نعتنقها وسياستنا وأفعالنا والطريقة التي نبني بها عالمنا المادي. وكانت الطرق التي قرأ بها الناس حريق موريا مرايا لأفكارهم وللمعتقدات التي يؤمنون بها وكيف يريدون أن يكون العالم. فالقصة ليست مجرد قصة عن ما جرى فحسب بل تروي المستقبل أيضا. وحجبت القصص الكثيرة المتداولة عن حريق مخيم موريا القصة الحقيقية وضيّعتها لكنها فضحت توجهات البشر الأيديولوجية وأحقادهم وعنصريتهم وكونهم ضحايا في الوقت نفسه. لقد أشعل أحدهم النار ودمر المخيم لكن ما سمعناه من اتهامات وما حدث من ظلم يفضح طبيعة عالمنا الذي بدأ يضيق ويعود إلى الترسيم الأولي للحدود الذي قامت به القردة. كانت القردة، بحسب العلماء المتخصصين في دراسة السلوك الحيواني، حين تستوطن في مكان، تضع حدودا من نوع معين تختلف عن حدود البشر، وكانت تهاجم بعنف كل من يعبرها، كي يزاحمها على خيرات هذا المكان.
صار تقديس الحدود وبناء الأسوار وكراهية الآخر الأجنبي والتعصب لبياض النوع العنصري من الملامح الأساسية لوجه العالم
تتوصل المؤلفة في نهاية كتابها إلى نتيجة مفادها أننا لا نستطيع أن ندرس مظالم الهجرة المعاصرة من دون دراسة الهجرة في الماضي.
يذكّر كلامها بتواريخ أبعد تحدث عنها الكاتب الأميركي وليم برايسون في كتابه الشهير "موجز تاريخ كل شيء تقريبا" (2003) والذي يقول فيه إن الأنثروبولوجيا الحديثة مبنية على فكرة أن النوع البشري تطور بسبب الهجرة وتقاسم الجينات والمعلومات، إلا أن الأمور بدأت تختلف لاحقا وصار تقديس الحدود وبناء الأسوار وكراهية الآخر الأجنبي والتعصب لبياض النوع العنصري من الملامح الأساسية لوجه العالم القاسي الذي نعيش فيه وهذا ما رآه علي سيد الأفغاني وآلاف الضحايا المجهولين الذين قضوا غرقا فارين من جحيم الديكتاتوريات العسكرية والحروب الأهلية والحروب الرأسمالية والاستيطانية والبطالة والتردي الاقتصادي والكوارث الطبيعية.