عايش أنطون تشيخوف بيئته ومجتمعه والوجود الإنساني، فترك أثرا كبيرا في الثقافة الروسية والعالمية، لأن كلّ ما كتبه من مسرحيات وقصص قصيرة طلع من معيشه ومن التزامه الإنساني والمجتمعي. هي كتابة نقدية، لا نصوص مركّبة ومفتعلة، ولا ادعاءات طنانة. فكلّ ما صاغه طالع منه، من أحاسيسه المرهفة، ومن تجاربه الحيّة المعيشة. وبتواضع الكبار كان يردّد أنه ليس كاتبا مسرحيا. ولم تكن شخصياته حزينة كما يعتقد البعض، بل كان يقدّم نفسه كاتبا محبّا للحياة، مشرقا ومتفائلا. كتب لروسيا وعن روسيا، وقد ارتبط مسرحه بالمخرج والمنظّر الكبير قسطنطين ستانيسلافسكي (1863-1938)، علاقة كبيرَين افتتحا في تلك الفترة الإخراج الجديد، والكتابة الجديدة، كرائدَين للمسرح العالمي الجديد، فكانت ثورة في الكتابة وفي الإخراج.
وصفه ستانيسلافسكي في الذكرى العاشرة لوفاته بأنه "شاعر ملحمي يرتدي قميص روسيا. يعيش هواجس الناس، بذلك الحب الرقيق، كما تحب امرأة، مثلما تحب أمّ أبناءها". أما الكاتب الفرنسي جان جاك روسو فقال "إنه القلب ذاته يخفق في كل الصور، وكلّما قرأته تكتشف جديدا. وقال هو واصفا ذاته: "الطبّ هو زوجتي والأدب عشيقتي".
يقول ستانيسلافسكي إنه بعد نجاح مسرحيّتَي "النورس" و"الخال فانيا"، لم يعد في وسع المسرح أن يستمر من دون مسرحية جديدة لتشيخوف، "وصار مصيرنا منذ ذلك التاريخ معلّقا بيدي تشيخوف، فإذا قدّم مسرحية فستقدم موسما، وإذا لم يقدمها فسيفقد المسرح رونقه". فمثلما حقق تشيخوف حضوره القصصي حقق مسرحه دراما من نوعٍ خاص حيث كان التعبير لديه مجسّما والإيقاع الرئيسي للمسرحية متوازنا، فقد كان مسرحه مؤثرا وحيّا وناقدا، أسقط الأقنعة عن الحياة الاجتماعية الروسية وكشف النقاب عن النفوس البشرية بإتقان فنّي رائع. ويكفي أن مسرحه لا يزال حاضرا في أنحاء العالم، وتُقدم مسرحياته مثل "الخال فانيا"، و"الشقيقات الثلاث" و"بستان الكرز".
أسقط الأقنعة عن الحياة الاجتماعية الروسية وكشف النقاب عن النفوس البشرية بإتقان فنّي رائع
يكاد فنّ القصة القصيرة أن يقترن به، من حيث عرف ما يسمى بالأسلوب التشيخوفي الذي ألقى بظلاله على الأجيال اللاحقة، وحتى يومنا هذا لا يزال بعض كتّاب القصة يُنعَتون بتأثرهم بتشيخوف. وقد طاولت بصماته كتّابا عربا في القصة القصيرة، منهم يوسف إدريس وزكريا تامر ومحمود تيمور ويوسف السباعي وغيرهم.
وعلى الرغم من غزارة كتاباته في مجال القصة القصيرة، كان يتمتع بحسّ عال من النقد الذاتي، وكان يحفظ القصص عدة سنوات من دون نشرها، وهو لا يتوقف عن تنقيحها، ولا عن كتابة القصص.
وإذا كان في مسرحه أثّر في كتّاب مسرحيين عالميين مثل صموئيل بيكيت الذي اقتبس مناخاته في مسرحيته "الشريط الأخير"، فإن أعماله القصصية لا تقلّ أهمية وطليعية وعمقا عن كبار الروائيين مثل تولستوي ودوستويفسكي، وإذا كان شكسبير يتجاوزه من حيث الشهرة، إلا أن الصحيح أيضا، أن تشيخوف ترك أثرا كونيا ربما يوازي كاتب "ريتشارد الثاني".
ولعلّ أهم ما ميّز تشيخوف في نصوصه القصصية مرونته في الكتابة، وسهولته في التعبير وبراعته باستخدام اللغة، ناهيك أنه كتب أصلا للعامة، فكان يغرف في أعماله من معاناة الفقراء والمعوزين، ويتوّج نهاياتها النصر للناس. لكن اللافت أنه تجاوز ذلك إلى النخب والكتّاب وحتى الشعراء، وهو في العمق بشفافيته، ومشاعره، وما بين سطوره، شاعر.
إنّه شاعر القصّاصين والمسرحيين. الشِّعر، كما وصفه ستانيسلافسكي، يرشح من جوانب نصوصه، ليس بالبلاغة، وإنّما في روح كتاباته وهواجسها.