لم يعد خافيا أن الهدف الرئيس لإسرائيل في هذه الحرب الكارثية ليس تدمير "حماس" فحسب، بل حياة وسبل عيش أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، وأن الحقيقة المرة التي لا يمكن إنكارها هي الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأي محاولة للتغاضي عنها بادعاء أن الحرب مستمرة لإنهاء "حماس"، ليس إلا لتبرير المذبحة. فليس من قبيل المصادفة أن يدعي رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه ماضٍ في حربه حتى تدمير "حماس"، بينما ترتفع أصوات أخرى داخل إسرئيل تزعم أن "حماس" فكرة، والفكرة لا يمكن اجتثاثها، وفي هذا الوقت الضائع بين الرأيين تستمر الآلة العسكرية الإسرائيلية في قتل الفلسطينيين.
لا ننسى أن السبب الرئيس للمقتلة التي تلاحق الشعب الفلسطيني منذ 76 عاما، هي الفكرة الاستعمارية التي تحولت إلى قوة احتلال، ونجحت في تجميع اليهود من كل أنحاء العالم ونقلهم إلى فلسطين وإسكانهم محل الفلسطينيين، وإقامة دولة إسرائيل، وما يحدث حاليا في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، هو استمرار لهذه المقتلة، ودليل في الوقت ذاته على الأساليب المغرقة في الوحشية والمتفلتة من الأخلاق التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت، لقضم الأراضي الفلسطينية وطرد أهلها الأصليين أو إبادتهم، وبدعم عالمي لا حدود له.
لكن في المقابل، من المبالغة القول إن قوى سياسية وأجنحة عسكرية داخل فلسطين، مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وخارجها مثل "فيلق القدس" و"حزب الله" اللبناني و"أنصار الله" و"حزب الله العراقي" وأخواته، هي جيوش وحركات مقاومة هدفها تحرير فلسطين، وانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، فهذه القوى هي جزء من حركات الإسلام السياسي التي ترتبط بما يعرف بمشروع الأصولية الإسلامية، وهي بطريقة ما، تقدم خدمة مقنعة للمشروع الصهيوني، من ناحية فئويتها وأيديولوجيتها الدينية.
كما لا يخفى على أحد أين وكيف ولماذا نشأت هذه القوى، ومن أين تتلقى الدعم السياسي والتمويل والسلاح، وكيف تحصل على التسهيلات اللوجستية في العواصم الممولة لها من مكاتب تمثيل ومراكز إعداد وتدريب، وأنها أُنشئت لهدف أبعد من المقاومة والتحرير وأقرب إلى المتاجرة، وهو مصادرة القضية الفلسطينية وتحويلها إلى آلة ضغط وتفاوض لتحقيق مكاسب سياسية.
ولا شك أن هذه القوى متفرقة ومجتمعة، تمكنت من تهميش قوى المقاومة الشعبية والوطنية وحركات النضال الفلسطينية ثم إضعافها ثم تدميرها بالتدريج، مما يعطي انطباعا بأن أهداف القوة الدخيلة تلاقت في الإطار نفسه مع الأهداف الإسرائيلية، إذا ما تتبعنا عمليات التطهير والاغتيالات التي قامت بها الجهتان، لقمع القوى الوطنية الفلسطينية والقضاء عليها حيث أمكن.
لقد عملت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، في الضفة الغربية، على تدمير القوى الوطنية واليسارية والتقدمية الفلسطينية، التي ناضلت لعقود طويلة لاسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني، ومن المؤسف القول إن "حماس" سارت بالمخطط نفسه في غزة بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية، رغم معارضتها الشديدة لـ"اتفاق أوسلو" وتخوين الموقعين عليه والمعترفين بجدواه، لقد تقمصت الفصائل الإسلامية من حيث لا تدري ربما، الدور الذي طمحت إليه إسرائيل.
لا يخفى على أحد أين وكيف ولماذا نشأت هذه القوى، ومن أين تتلقى الدعم السياسي والتمويل والسلاح، وأنها أُنشئت لهدف أبعد من المقاومة والتحرير وأقرب إلى المتاجرة
إن حمل السلاح بوجه العدو الإسرائيلي وتنفيذ العمليات العسكرية "الناجحة" ضد جيش الاحتلال، لا يعطي لأي قوة طابعا شعبيا وثوريا ولا يمنحها بالضرروة دورا قياديا ولا حكما رشيدا، فإن لم يكن الهدف الرئيس لأية حركة مقاومة هو حماية شعبها، فالأجدى أن لا تقاوم، فكل فلسطيني على قيد الحياة هو جبهة مقاومة قائمة بذاتها، ومن يرى أن قتل أكثر من أربعين ألف فلسطيني خسائر جانبية لحماية المقاومة، هو قاصر فعلا، فكل إنسان فلسطيني هو هدف عسكري بالنسبة لإسرائيل، وكلما محت إسرائيل عائلات فلسطينية من السجل المدني تخلصت من عبء ديموغرافي يثقل عليها ويهدد وجودها.
عليه، لا يمكن للأحزاب والحركات والقوى الأصولية مثل "حماس" و"حزب الله"، أن تكون الجهة التي تدافع عن حق الشعب الفلسطيني، بل على العكس هي في حد ذاتها تشكل خطرا عليه وعائقا أمام نيله حقوقه، والأسلم عدم الوقوع في فخ شعاراتها ووعودها التي لم تجلب سوى الدمار على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وعلى اللبنانيين في الجنوب، وليس ترفا القول إنه لا يمكن استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، إلا ضمن سياق سياسي وحقوقي وإنساني تضامني ونضالي مشترك يجمع القوى الوطنية المستقلة التي تمثل الشعب الفلسطيني والقوى الحقوقية في العالم، مهما كانت هذه القوى ضعيفة في الترتيب السياسي القائم.