التعليم في مصر بين مطرقة الإصلاحات وسندان التكاليف الباهظة

ارتفاع قياسي لرسوم المدارس والجامعات في كل المراحل... والعلم حكر على المقتدرين

إدواردو رامون
إدواردو رامون

التعليم في مصر بين مطرقة الإصلاحات وسندان التكاليف الباهظة

في ظل تراجع قيمة الجنيه المصري وارتفاع الأسعار وما يقاسيه المصريون من ضغوط معيشية واقتصادية، بات موسم التقديم إلى الجامعات والمدارس الخاصة والدولية عبئاً على موازنات الأسر المصرية، جراء الارتفاعات المتلاحقة والجنونية للتكاليف التي لم تقتصر على الخدمات والمستلزمات الدراسية، بل طاولت مراحل التعليم كلها، مما جعل التعليم سلعة بعدما مجانياً. كما امتد هذا الواقع إلى الجامعات الخاصة والأهلية بصورة غير مسبوقة.

يُعَد التعليم من أهم ركائز التنمية المستدامة في مصر، وهو شهد على مدار السنوات المنصرمة العديد من الإصلاحات والتطويرات في المنظومة التعليمية، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. فمع التغيرات في الحقائب الوزارية تتغير أساليب الأنظمة التعليمية؛ فتارة يُفرَض نظام "التابلت" (الكومبيوتر اللوحي المحمول) على المراحل التعليمية كلها في محاولة للابتعاد عن أنظمة التلقين والحفظ وتعزيز اعتماد التلامذة على الفهم والابتكار، وتارة أخرى تُلغَى مواد دراسية وتُضَاف أخرى جديدة، مع احتساب درجات بعض المواد من ضمن إجمالي المجموع الكلي للطلاب بما يؤثر في نتائج الامتحانات، في حين لا تُحتسَب درجات مواد أخرى كانت تُعتبَر حاسمة في السابق.

نقص في المعلمين وجودة التعليم

يرى البعض أن التغييرات الجديدة تهدف إلى إصلاح نظام الثانوية العامة، بينما يعتقد آخرون أنها تفسد التعليم في مصر. ولا يزال الأمر محل جدال في الفضاء الإلكتروني. وصار التعليم الذي يستهدف سوق العمل متاحاً فقط لمن يملك المال، كما لا ينعكس تعدد الأنظمة التعليمية بشكل إيجابي على فرص العمل، وإذا توافرت هذه الفرص، يتقاضى متخرجو المدارس والجامعات الأجنبية رواتب أعلى بكثير من نظرائهم المتخرجين من مدارس وجامعات محلية.

تراجع جودة التعليم نتيجة النقص في أعداد المعلمين، الذين لا يتجاوز عددهم مليون معلم، ورواتبهم تتراوح ما بين 61 و122 دولاراً

يرى خبراء الاقتصاد والمحللين في حقل التعليم أن دخول "البزنس" في قطاعي الصحة والتعليم أضعف المنظومة الاجتماعية وأرهق المواطنين بسبب ارتفاع التكاليف، مما جعل التعليم حكرا على من لديه القدرة المادية.

يُذكَر أن تقريراً للبنك الدولي للفترة 2022-2023 أفاد بأن تراجع الإنفاق العام على التعليم في مصر أدى إلى نقص حاد في جودة التعليم نتيجة نقص في أعداد المعلمين، الذين لا يتجاوز عددهم مليون معلم، في وقت يزيد فيه عدد الطلاب في مراحل التعليم قبل الجامعي على 24 مليون طالب، وهم يزدادون سنوياً بمعدلات عالية. لهذا لم ترقَ الأنظمة التعليمية الحكومية إلى المستوى المطلوب في المراحل التعليمية كلها من الحضانة وحتى الجامعات. ووفق التقرير، يصبح الاعتماد الكلي على الدروس الخصوصية والمراكز المتخصصة لضمان النجاح والانتقال إلى المرحلة الجامعية هو القاعدة، نظراً إلى ضعف رواتب المدرسين سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة، وصعوبة المناهج الحكومية، ما يدفع العديد من الأسر نحو التعليم في المدارس الدولية التي تتراوح تكاليفها بين ألفين وخمسة آلاف دولار في السنة، لكنها تتميز بجودة تعليم عالية.

.أ.ف.ب
طلاب مصريين يرقصون في المدرسة البريطانية الدولية في القاهرة، 12 يونيو 2013

يُشَار إلى أن رواتب المعلمين المعينين في مصر تتراوح بين ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف جنيه شهرياً (بين 61 دولاراً و122 دولاراً). وتحول التعليم في مصر إلى تجارة رابحة جدا، فقد أتاحت الجامعات الحكومية للطلبة العرب الالتحاق بها في مقابل مدفوعات بالدولار لكنهم يحققون نسب نجاح أقل بكثير مقارنة بالمصريين.

تكاليف فلكية

تتراوح أقساط الجامعات الخاصة بين 130 ألف جنيه و800 ألف جنيه (ألفان و650 دولاراً و16 ألفاً و325 دولاراً) في السنة. ويُقدَّر متوسط رسوم كليات الطب في الجامعات الخاصة بنحو 200 ألف جنيه (أربعة آلاف دولار) في العام الواحد، ويصل في بعض الجامعات إلى أكثر من 250 ألف جنيه (خمسة آلاف و100 دولار). بينما تتراوح تكاليف كليات الصيدلة وطب الأسنان بين 130 ألف جنيه و180 ألف جنيه (ألفان و650 دولاراً وثلاثة آلاف و675 دولاراً)، في حين تصل الرسوم الدراسية في الجامعة الأميركية في القاهرة إلى ما يزيد عن 800 ألف جنيه (16 ألفاً و300 دولار).

يزيد عدد الطلاب في مراحل التعليم قبل الجامعي على 24 مليون طالب، وتتراوح أقساط الجامعات الخاصة ما بين 2650 و16,350 دولارأميركي

يشير التقرير الإحصائي الأحدث عن دخل الأسرة المصرية وإنفاقها (2019-2020) إلى أن 26 مليون أسرة مصرية (وهو مجموع الأسر التي لديها أبناء في مراحل التعليم) تنفق 482 ملياراً و247 مليون جنيه على التعليم (9,84 مليارات دولار). وبحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الدوري، فقد بلغ إجمالي ما ينفقه المصريون على الدروس الخصوصية سنوياً أكثر من 136 مليار جنيه (2,77 مليار دولار).

وأعلنت الحكومة زيادة مخصصات التعليم العالي والجامعي بنحو 40 مليار جنيه (816 مليون دولار) لتصل إلى 199,5 مليار جنيه في موازنة عام 2023/2024.

.أ.ف.ب
طلاب يصطفون في ساحة مدرسة المحبة، في بلدة صغيرة شمال القاهرة، 13 أكتوبر 2018

كما زاد حجم الإنفاق على التعليم إلى نحو 1,4 تريليون جنيه (28,8 مليار دولار) خلال السنوات العشر المنصرمة، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. . وتعتزم الحكومة زيادة عدد الفصول بنحو 105 آلاف فصل حتى عام 2030 ليصل إجمالي عدد الفصول الجديدة إلى 225 ألف فصل خلال الفترة نفسها.

غياب الاستراتيجيا

يعكس الوضع الحالي عدم وجود استراتيجيا واضحة للتعليم في مصر سواء ما قبل الجامعي أو الجامعي. فالتعليم غير مرتبط بسوق العمل الحالية أو المستقبلية التي ستتأثر بالثورة الصناعية الرابعة، كما لم يحظَ التعليم الفني والتكنولوجي بمكانة مناسبة تمكنه من خفض العبء على التعليم العام والجامعات ويغيب استخدام التعليم الحرفي والمهني كآلية للحماية الاجتماعية.

تأتي هذه المغالاة في ارتفاع تكاليف التعليم نتيجة تحرير سعر الصرف وانخفاض قيمة الجنيه في مقابل الدولار

وتأتي هذه المغالاة في ارتفاع تكاليف التعليم نتيجة لتحرير سعر الصرف وانخفاض قيمة الجنيه في مقابل الدولار. وتتراوح أسعار المدارس الخاصة للغات بين 25 ألف جنيه و50 ألف جنيه (510 دولارات وألف و20 دولاراً) في السنة، لكن الطلاب يعتمدون على الدروس الخصوصية في المراكز المتخصصة. وتتراوح أسعار المدارس الدولية بين ألفين وخمسة آلاف دولار في السنة، مما يزيد الأعباء على الأسر المصرية سنوياً.

في ظل الضغوط الناتجة من الاتفاقات المبرمة مع صندوق النقد الدولي التي تطالب بمزيد من الإصلاحات المالية للسياسات الاقتصادية المتفق عليها، واتخاذ الحكومة قرارات ضاغطة على الشارع المصري مثل زيادة أسعار المحروقات والطاقة والمياه والخدمات المقدمة كلها. 

لا تخضع المدارس والجامعات الدولية إلى الرقابة الحكومية في تحديد البنود الأساسية للتكاليف الدراسية، التي تزيد على أساسها التكلفة سنوياً. وتزيد الظروف الاقتصادية معاناة غالبية الأسر بسبب تراجع قدرة البعض على الإنفاق على تعليم أبنائهم في المراحل الدراسية الأساسية، بعد إعلان انتقال عشرات الآلاف من الطلاب من مدارس خاصة إلى حكومية، إثر تراجع قدرتهم المالية على مجابهة الزيادة المطّردة في أسعار المدارس الخاصة. لذلك بدأ العديد من المصارف المصرية في تقديم أنواع جديدة من القروض مخصصة لتسديد تكاليف الجامعات الخاصة. ويُعَد هذا النموذج مستنسخاً من الولايات المتحدة وأوروبا، لكن مستوى المداخيل في مصر لا يسمح بحلول كهذه.

حلول فردية

لجأت مارغو عادل، التي كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى، إلى نقل ولديها من مدرسة خاصة، لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المالية تجاهها، إلى مدرسة تجريبية تابعة للحكومة بتكاليف لا تتعدى رسومها 100 دولار سنوياً. واتهمت المدارس الخاصة بـ"المغالاة في رفع الرسوم، إلى جانب تخليها عن دورها الحقيقي وتحولها من الاستثمار في العقول إلى مشاريع استثمارية". إلا أن مرثا فتحي أشارت إلى "أن التعليم ما قبل الجامعي يُعَد خدمة إلزامية على الدولة كما هي الحال في غالبية الدول". واعتبرت "أن زيادة أسعار الجامعات والمدارس الخاصة مشكلة تؤرق الأسر المصرية في ظل غياب التشريعات التي تضبط زيادة رسوم التعليم الخاص".

المدارس الحكومية بدأت في الالتفاف على مجانية التعليم باستحداث نظم تعليمية برسوم مثل المدارس التجريبية

الدكتور محمد علي إبراهيم، أستاذ الاقتصاد وعميد كلية النقل واللوجستيات الأسبق

في هذا السياق، أشار الدكتور محمد علي إبراهيم، أستاذ الاقتصاد وعميد كلية النقل واللوجستيات الأسبق، إلى أن الإنفاق على التعليم "يمثّل جزءاً يُعتد به من ميزانية الأسرة المصرية، فقد قدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن الإنفاق على التعليم يمثل 5,7 في المئة من متوسط الإنفاق العائلي على مستوى البلاد، وفق إحصاءات 2019/2020". وقال: "بالطبع زادت هذه النسبة أثناء جائحة "كوفيد-19". ومع زيادة معدلات التضخم وانخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار. كذلك تتضمّن أهم بنود الإنفاق على التعليم الرسوم الدراسية والدروس الخصوصية والكتب الخارجية الأجنبية الإضافية إلى الكتب المقررة، والأدوات المدرسية. وتتفاوت الرسوم الدراسية في شكل كبير بين المدارس الحكومية، التي من المفترض أن تقدّم تعليماً مجانياً. لكن هذه المجانية تكاد تكون غير موجودة مع الاضطرار إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية، نظراً لرداءة جودة التعليم، وعدم توافر المدرسين وتكدس الفصول وغيرها من الأسباب".

التفاف على مجانية التعليم

ولفت إبراهيم إلى أن المدارس الحكومية بدأت في الالتفاف على مجانية التعليم باستحداث نظم تعليمية برسوم مثل المدارس التجريبية. وأضاف: "كذلك انتشرت المدارس الخاصة بمستويات مختلفة، وحتى الدولية ذات الرسوم الفلكية التي تجاوز  بعضها 600 ألف جنيه (12 ألف دولار) في العام، كما أنها تزيد مع كل زيادة في سعر صرف العملات الأجنبية، وبعضها يتقاضى الرسوم بالنقد الأجنبي. هذا التعدد في أنظمة المدارس مع تراجع جودة الخدمة التعليمية والتغيير المستمر في أنظمة الدراسة، جعل من الصعب تحقيق مستهدفات الدولة المصرية من العملية التعليمية".

.أ.ف.ب
أطفال ينزلون عند رصيف عبور في بلدة "عزبة البرج" في محافظة دمياط شمال مصر، 22 أكتوبر 2019

وأشار إلى أن الدروس الخصوصية "باتت واجبة بسبب غياب الطلاب والمدرسين في المدارس لضعف مرتبات المعلمين وعدم تأهيلهم التأهيل الكافي في ظل سباق محموم على دخول الجامعات، فأصبحت الدروس الخصوصية هي الأساس، والتعليم في المدارس هو الاستثناء، وهذا عبء كبير على الأسرة المصرية".

ينفق المصريون على الدروس الخصوصية نحو 960 مليون دولار سنويا، وظهرت بدعة الكتب الأجنبية نتيجة لانعدام جودة الكتاب المدرسي

رضا حجازي، وزير التربية والتعليم والتعليم الفني المصري السابق

وقدّر وزير التربية والتعليم والتعليم الفني المصري السابق رضا حجازي ما يُنفَق على الدروس الخصوصية بنحو 47 مليار جنيه سنوياً (960 مليون دولار).

واعتبر إبراهيم الكتب الأجنبية بدعة ظهرت نتيجة لانعدام جودة الكتاب المدرسي لجهة طريقة عرض المنهج أو التدريبات والامتحانات السابقة، وتأخر تسليم الكتب في بعض الحالات. وقال: "يكفي أن نشير إلى أن أسعار الكتب الخارجية زادت بنحو 30 في المئة هذا العام فقط، وفق تقديرات أولياء أمور التلاميذ على وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن ارتفاع أسعار المستلزمات المدرسية".

.أ.ف.ب
طلاب يجتمعون في ساحة مدرسة المحبة، في بلدة صغيرة شمال القاهرة، 13 أكتوبر 2018

ولم يقتصر ارتفاع تكلفة التعليم على المرحلة قبل الجامعية، بل امتد إلى التعليم الجامعي، الذي يعاني هو الآخر من تعدد الأنظمة التعليمية بين الجامعات الحكومية، التي أنهكها نقص الإمكانات، والجامعات الخاصة والأهلية والتكنولوجية، وكذلك الجامعات الدولية. وهناك الجامعات المنشأة باتفاقات خاصة مثل الجامعة الأميركية في القاهرة والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، ناهيك عن المقررات التي تنتهي بشهادات مشتركة تصدر عن جامعة مصرية وأخرى دولية، مما أدى إلى القضاء تدريجياً على مجانية التعليم الجامعي. حتى الجامعات الحكومية المجانية استحدثت نظام الساعات المعتمدة (الكريديت) في مقابل رسوم مرتفعة، بينما تتقاضى الجامعات الخاصة رسوماً تتزايد سنوياً، فيما تحصّل الجامعات الأهلية والتكنولوجية رسوماً لا تقل عن الجامعات الخاصة.

رسوم الجامعات الدولية بالدولار

أما رسوم الجامعات الدولية، التي أُنشِئت بموجب قانون إنشاء فروع الجامعات الدولية في مصر الصادر عام 2018، فهي مرتفعة للغاية، بل إن بعضها يتقاضى رسومه بالنقد الأجنبي، مما يشكل ضغطاً على حصيلة العملات الأجنبية في مصر وميزان المدفوعات. وأدى ذلك كله إلى تراجع مكانة الجامعات الحكومية، على الرغم من أنها تحتل مكانة متميزة عن نظيراتها الخاصة في الدول الغربية التي تتخذها نموذجاً يحتذى به.

توقفت الدولة المصرية عن إنشاء جامعات جديدة منذ تسعينات القرن الماضي، على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد السكان، مما فتح الباب لرجال الأعمال للدخول في الاستثمار الجامعي والتعامل معه كسلعة

وذكرت نيرفين ناجي، والدة أحد طلاب نظام المدارس الدولية، أن غالبية المدارس الدولية صارت تحدد الزيادة السنوية بمضاعفة الرسوم المدرسية. وأوضحت أن المدارس الدولية مثل الـ"آي. جي. سي. إس. إي." (International General Certificate of Secondary Education (IGCSE)) التي تخضع إلى نظام بريطاني، تتجاوز رسومها ألفين و200 دولار وتتضمن دورات لكل مادة، ويتراوح سعر المادة الواحدة من المواد الأساسية بين 200 دولار و400 دولار. وتتضمن السنة الدراسية ما لا يقل عن خمس مواد أساسية، فضلاً عن رسوم الكتب والتدريبات والامتحانات السابقة والمجلدات ورسوم الامتحانات، بالإضافة إلى التكاليف الأخرى الخاصة بالأنشطة الفنية والرياضية.

وتوقفت الدولة المصرية عن إنشاء جامعات جديدة منذ تسعينات القرن الماضي، على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد السكان، مما فتح الباب لرجال الأعمال للدخول إلى هذا المجال والتعامل معه كسلعة. ووفق إحصاءات رسمية، يوجد في مصر 28 جامعة حكومية، بينما يبلغ عدد الجامعات الخاصة في البلاد 25 جامعة، أُنشِئت غالبيتها خلال السنوات الـ30 المنصرمة.

font change

مقالات ذات صلة