مسرحيّون في غزّة يروون يومياتهم خلال الحرب

حزن على ما تهدّم وأمل باستئناف المسيرة

 Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

مسرحيّون في غزّة يروون يومياتهم خلال الحرب

غزة: طوال سنوات الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، شكّل المسرح متنفّسا للسكان ونافذة إنسانية وثقافية لهم، ومع بدء الحرب الأخيرة على القطاع استبيحت مقدرات الحياة المسرحية في غزة فتعرّضت معظم المسارح للقصف والتدمير، وأُتلفت محتوياتها. كما فقدت الفرق المسرحية القدرة على التجمع وتعرضت للتفكك، بفعل نزوح أعضائها الدائم أو حتى مقتلهم في بعض الأحيان، وهو ما أنتج شللا في الحياة المسرحية بغزة، كما في كلّ شيء آخر.

لكن تبقى المحاولات لاستعادة صوت المسرح، قائمة عبر مبادرات من فنانين ومخرجين، تنطلق بين خيم النزوح، وتشكل مساحات يؤسّس لها بين ركام المباني، لتغطي بعض ملامح الصورة المأسوية للمدينة، وتصوغ شيئا من الحياة وسط كثافة الموت.

خارج المكان

عايش المخرج والفنان المسرحي علي أبو ياسين، تجربة التهجير والنزوح إلى وسط القطاع، مواجها أقسى الظروف، وشهد تدمير المسارح وصالات العرض الغزية. يقول لـ"المجلة": "من الطبيعي أن المسرح ينمو ويترعرع في المسارح، فبناء التجربة المسرحية، من نص وتمثيل وإخراج وتمارين وتجارب، يحتاج إلى قاعات ومسارح، وانهيار هذه المباني يعني انهيار المسرح في حدّ ذاته".

شكّل النزوح العاصفة الكبيرة التي قادت المسرح إلى المجهول، فما يعيشه أهل القطاع من مآس وويلات ينعكس مباشرة على المسرح ووجوده

علي أبو ياسين

أما الفنان المسرحي والمخرج محمد شعشاعة فيؤكد أن أعضاء الفرق المسرحية الغزية "يعيشون حالة صدمة مما حدث من تدمير كلي للمسارح وتفكيك لروابط الحالة المسرحية داخل غزة، إلا أن أهل المسرح ليسوا مختلفين في ذلك عن جميع سكان القطاع الذين يعانون الأمرّين منذ بدء الحرب الإسرائيلية عليهم". يقول شعشاعة: "يسيطر عليّ الأسى بسبب توقف كافة أشكال الحياة المسرحية بغزة بفعل الحرب، وانهيار أطر الثقافة".

الفنان محمد شعشاعة

لكن الفنان محمد المصري يرى أن المسرح "عملية لا تتوقف في حياتنا، وحتى في صلب المأساة هناك عملية مسرحية مستمرة يمكن رؤيتها حتى في مشاهد النزوح القاسية". عن ذلك يقول: "لا ينهار المسرح إلا بفراغ الأرض من الإنسان، ونحن هنا باقون على هذه الأرض، ومعنا يبقى مسرحنا الفلسطيني".

اتبع الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب سياسة تهجير الفلسطينيين من مكان إلى آخر، وهو ما أنتج فوضى اجتماعية كبيرة، كان المسرح من ضحاياها نظرا إلى اعتماده على العمل الجماعي. يقول أبو ياسين: "أتت سياسة التهجير على حياة المسرح، فشكّل النزوح العاصفة الكبيرة التي قادت المسرح إلى المجهول، فما يعيشه أهل القطاع من مآس وويلات ينعكس مباشرة على المسرح ووجوده".

من جانبه اعتبر محمد شعشاعة "أن حالة النزوح انعكست على حياة الفنان المسرحي، الى درجة أن هنالك الكثير من الفنانين، لا يستطيع تأمين خيمة تؤويه، فكيف له أن يفكر في تقديم مشروع مسرحي في ظروف كهذه؟".

ويؤكد الفنان محمد المصري الباقي في شمال غزة، أن "سياسة التهجير تجهض الحياة برمتها، وتشلّ كافة أركان المجتمع الفلسطيني، والمسرح كفكرة يقوم على إنشاء مجتمعات وتثبيت التواصل الإنساني مهما تنقلنا".

مبادرات ذاتية

بيد أن المسرح واصل الحدّ الأدنى من التعبير عن ذاته بين مخيمات النزوح، على الرغم من المعوقات والتحديات الكبيرة. عن ذلك يقول أبو ياسين: "هناك العديد من المبادرات المسرحية الشبابية التي تقام بين مخيمات النزوح، إلا أن ذلك الجهد غير مستقر، ولا يحمل بنية تراكمية، نظرا لترتيب الحاجات الاجتماعية الحالية للمخيمات، من الغذاء والمأوى والأمان، كل ذلك يهمش دور المسرح الذي يقوم على الاستقرار، فكيف يتحقق ذلك في مخيم يفتقر للإيقاع المنتظم؟".

الفنان علي أبو ياسين خلال أحد العروض المسرحية قبل الحرب في غزة

يكمل المخرج الفلسطيني: "يحتاج العمل الجماعي في المسرح إلى تشكيل الفرق، وقد نعمل مع طفل أو شاب في الصباح، فيفارقنا مساء، قتلا أو نزوحا، فلطالما كان غياب الاستقرار سببا رئيسا لغياب المسرح".

 لا ينهار المسرح إلا بفراغ الأرض من الإنسان، ونحن هنا باقون على هذه الأرض، ومعنا يبقى مسرحنا الفلسطيني

محمد المصري

ويقول محمد شعشاعة: "العوائق كبيرة في وجه المسرحيين الذين يواجهون انعدام القدرة على التقدم الى الأماكن المختلفة وانحسار مساحة التحرك، وتكلفة المواصلات الباهظة، فأدى ذلك كله إلى هدم إرادة العمل الجماعي المسرحي، وبات الأمر مقتصرا على عمل فردي ينحصر بإقامة كل فنان وظروفه". ويضيف: "العروض المسرحية خلال الحرب لا تتجاوز قالب الدمى والمهرجين، وهي فقرات ترفيهية هادفة تحاكي ذهن النازح، ولربما تستطيع أن تستعيد ابتسامة على وجهه، فقدها منذ بدء الحرب".

في حين يؤكد المصري أن "صعوبة العمل المسرحي بين المخيمات تتمثل في الخطورة الناجمة عن تنقل الفنان شمال غزة، حيث الخطر الأمني، والصعوبة في المواصلات، حيث توقفت حركة السيارات، وانتقلت معظم العربات المجرورة بالدواب إلى جنوب القطاع".

الفنان محمد المصري

لكنه يتدارك: "لا يخلو الأمر من مبادرات ذاتية للمسرحيين، داخل المخيمات، تبقي التواصل الاجتماعي الثقافي، إلى حين عودة العملية الكبيرة للمسرح بعد الحرب، وكل ذلك يحدث حاليا بإمكانات محدودة للغاية".

يعود تقويض أركان المسرح في غزة، أيضا إلى تعطيل الظروف القاسية التي يتعرض لها الفنان المسرحيّ. عن ذلك يخبرنا أبو ياسين: "أعيش حالة شعورية صعبة بسبب فقد الكثير من الأصدقاء والأقرباء، والتهديد المستمر لحياتي وحياة أسرتي، فالبيت الذي نزحت إليه أيضا تعرض للقصف، وهذا كله يجعلني أفكر في النجاة لا أكثر، ويجعل المسرح بعيدا عن تفكيري".

وكذلك يقول شعشاعة إن فقد منزله وذكرياته ومقتنيات عمره، رسم أشد حالات الفقد خلال الحرب. ويتحدث عن رحلة نزوحه: "نزحت من بداية الحرب طلبا للنجاة، لكني حوصرت وعائلتي في مستشفى الشفاء، ورأيت الموت بعيني، ونزحت الى المنطقة الوسطى، وتنقلت نزوحا مرات عدة، ولم أجد منطقة الأمان التي يتحدث عنها الاحتلال".

ذكريات المكان وأمل العودة

في الأصل، لم يكن عدد المسارح في غزة كبيرا، وكان الاحتلال في كل حرب، يهدم أحد المسارح، فسبق أن تعرض مسرح الهلال الأحمر، جنوب غرب غزة، للقصف، 2014، وأعيد بناؤه، كما قُصف مسرح سعيد المسحال وسط غرب غزة، عام 2018، وخلال الحرب الأخيرة، دُمّر مسرح رشاد الشوا، وهو من أقدم مسارح غزة وأعرقها.

AFP
أطفال يشاركون في معسكر صيفي نظمه معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى تحت عنوان "السلام لغزة"، في مخيم جباليا للنازحين الفلسطينيين في شمال غزة في 29 أغسطس 2024

يخبرنا أبو ياسين عن علاقته بتلك المسارح، ومشاعره نحوها: "أحمل تجربة في كل مسارح غزة، ولكل منها مواقفه الخاصة وذكرياته، فأذكر أنني شهدت بناء مسرح سعيد المسحال طوبة طوبة، واخترت الكثير من مكوناته، وعشت داخله كثيرا. أما مسرح رشاد الشوا، فكنت أول من قدم عرضا على خشبته، وكانت مسرحية 'إبريق الزيت' مع الفنان سعيد البيطار، وعشرات المسرحيات الأخرى".

يقول: "هذه هجمة وحشية على ثقافتنا، وأشعر بالألم لدمار المسارح الهائل، لكن هذا هو حالنا مع الاحتلال، كلما حاولنا بناء الثقافة الفلسطينية، يقوم بتقويض ما بنيناه، ثم نبدأ من جديد".

كما يحدّثنا محمد شعشاعة عن بداياته وذكرياته المؤثرة مع المسرح، فيتذكر "مسرح هولست" شرق غزة، معتبرا إياه مكان السلام: "يصعب وصف الشعور والرجفة الأولى مسرحيا أمام الجمهور، هنالك قصص كثيرة في التفاصيل واليوميات مع المسرح وخشبته وجدرانه، جميعها اليوم مٌسحت من حياتنا".

أما محمد المصري فيتذكر رحلات المسرح المتنقل، وعمله مع الأطفال، وصولا إلى المسارح الثابتة التي هدمت أخيرا، فيقول: "كان المسرح المتنقل رفيقي الأول، أما في مسرح رشاد الشوا، فالتقيت أول الجماهير التي صفقت لي، و"مسرح هولست" كان المكان الحميمي الذي شهد أحلامي الفنية، وسبقهما بالتعرض للإبادة مسرح المسحال الذي تركت على خشبته دموعا لا حصر لها تحولت اليوم إلى دموع حسرة على هدمه".

على رأس الأولويات إعادة إعمار المسارح، فور انتهاء الحرب على غزة، أملا في استعادة النشاط المسرحي سريعا

محمد شعشاعة

وفي عمق الأزمة التي تعصف بالفن المسرحي وأعمدته بغزة، هناك أيد تمتد لتساعد أهله، من  دول عدة، يقول أبو ياسين: "يواجه الدعم المؤسسي الدولي للمسرح خلال الحرب صعوبة بالغة، لغياب مكونات المسرح، لكنّ أصدقاءنا المسرحيين من حول العالم، يقفون معنا، كعائلة مسرحية واحدة، وقد فاق حجم التضامن كل التوقعات".

وفي السياق نفسه، يقدّر محمد شعشاعة أهمية الدعم المؤسسي للمسرح الغزي، خلال الحرب وبعدها، ويؤكد أهمية دور المسرح في محاكاة حياة الناس ونقل حكاياتهم. فيقول: "يجب ألا ينقطع الدعم الدولي للمسرح الفلسطيني خلال الحرب، وبقاء التمويل أمر حيوي لاستمرار المسرح في كل زمان ومكان، وعلى رأس الأولويات إعادة إعمار المسارح، فور انتهاء الحرب على غزة، أملا في استعادة النشاط المسرحي سريعا".

AFP
مركز راشد الشوا الثقافي المدمر في 6 يناير 2024

وينفي محمد المصري وجود اهتمام دولي بالمسرح الفلسطيني وسط الحرب، مبينا أن "رعاية المسرح تتبع معايير المجتمع الدولي وضوابطه التي لطالما قيدت حرية التعبير الفلسطينية"، ويؤكد أهمية عودة المسرح إلى النشاط فور انتهاء الحرب، وعدم انتظار إعادة بناء المسارح، يقول: "لقد عملنا كثيرا في السابق، دون وجود مسارح مجهزة بالإضاءات والديكور، ولطالما كان العمل المسرحي بغزة يعيش أزمة في ظلّ الاحتلال، ومع ذلك تمكن من الاستمرار".

font change

مقالات ذات صلة