ليس من المستغرب أن تنهار الجولة الأخيرة من محادثات السلام السودانية في أغسطس/آب الماضي، فقد بدت المفاوضات بوساطة الولايات المتحدة والتي استضافتها سويسرا، محكومة بالفشل منذ البداية، نظرا لأن أحد الطرفين الرئيسين في الحرب الأهلية في السودان (الجيش) رفض المشاركة. وهذا الانهيار هو مأساة للسودان. ويبدو أن رحى الصراع الطاحن الذي أودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص حتى الآن وتسبب في نزوح عشرة ملايين شخص تستمر على قدم وساق، بينما تتضاءل الآمال في التوصل إلى حل.
غير أن انهيار المحادثات يعتبر ضربة للولايات المتحدة أيضا. فبالرغم من استثمار رأسمالها السياسي في المحادثات التي كان من المقرر أصلا أن يحضرها وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أثبتت واشنطن أنها غير قادرة على تجاوز العقبة الأولى ألا وهي إقناع الجيش بالحضور، فضلا عن إحراز أي تقدم ملموس في القضايا الجوهرية. والقضية السودانية ليست حالة شاذة، إذا تذكرنا الإخفاقات المتكررة في التوسط لوقف إطلاق النار في غزة، معطوفة على إخفاقاتها في إنهاء الحروب الدائرة في ليبيا وسوريا في السنوات السابقة. وهذا بعيد كل البعد عن دورها السابق كوسيط محوري في صراعات الشرق الأوسط. ففي أواخر تسعينات القرن العشرين، زعمت وزيرة الخارجية آنذاك مادلين أولبرايت في مقولتها المشهورة إن الولايات المتحدة هي "الدولة التي لا غنى عنها"، فهي اللاعب الأساسي في بناء السلام في كافة أرجاء العالم. وعلى العكس، نرى اليوم أن سجل الوساطة الأميركية في الشرق الأوسط هو حكاية فشل متواصلة إلى حد كبير.
"الدولة التي لا غنى عنها"
منذ ستينات القرن العشرين، وضعت الولايات المتحدة نفسها في موقع صانع القرار السياسي في الشرق الأوسط. ووفقا للبروفيسور كينيث شتاين، والدبلوماسي السابق صامويل ويليامز، أصبحت واشنطن "الطرف الثالث الأساسي، والوسيط الوحيد القادر على تقديم حوافز وتأكيدات وضمانات موثوقة". وقد انصبت مثل هذه الجهود على الصراع العربي-الإسرائيلي على وجه التحديد، وحققت تقدما مستمرا في العقود الثلاثة اللاحقة.
جاءت خطوات التقدم الأولى في عام 1979، مع اتفاقية كامب ديفيد التي حققت السلام بين إسرائيل ومصر، التي توسط فيها وضمنها الرئيس الأميركي جيمي كارتر، لتتعثر الجهود اللاحقة في ثمانينات القرن الماضي، لكن وبحلول عام 1991 نجحت واشنطن في الترتيب لمؤتمر مدريد، الذي أدى في النهاية إلى ظهور اتفاقات أوسلو عام 1993. كما توسطت في السلام بين الأردن وإسرائيل في عام 1994، وأشرفت جوهريا على محادثات غير ناجحة بين إسرائيل ولبنان وسوريا.