منعطفان اثنان أحاطا باجتماعات حكام المصارف المركزية في "جاكسون هول" هذه السنة، الأول ما سبقها بأسبوعين من اضطراب مفاجئ ودراماتيكي في الأسواق العالمية فتح الباب واسعا أمام التحليلات، بدءا من الهشاشة التي ظهرت في الأسواق وردود الفعل المتسرعة على تقرير الوظائف الأميركي، ليعود هدوء الأسواق وإعادة تموضعها في الأيام التالية، وليس انتهاء بموجة المخاوف من ركود محتمل في الاقتصاد الأميركي، ومنه في العالم الذي خَشي من أن تعطس الولايات المتحدة فيصاب بالزكام.
أما المنعطف الثاني، فلم يكن مفاجئا للجميع، بل متوقعا، ولم يكن بحاجة إلا إلى مصادقة على لسان رئيس الاحتياطي الفيديرالي، جيروم باول، وهو ما فعله حين أعلن في خطابه الأبرز خلال الاجتماعات "لقد حان الوقت لتعديل السياسة (النقدية)"، في إشارة جدية إلى خفض مستوى معدلات الفائدة مع احتواء التضخم واقترابه من هدف الـ2 في المئة المنشود منذ عامين.
هل عادت الثقة؟
ليس تماما، ربما بدأ مسار خفض أسعار الفائدة لدى معظم البنوك المركزية الكبرى في العالم، إلا أن "حال عدم اليقين السياسي والاقتصادي لا تزال مرتفعة"، كما قال أنغوس كولينز، رئيس قسم النمو الاقتصادي والتحول في المنتدى الاقتصادي العالمي.
المزيد من التباطؤ في سوق العمل لن يكون موضع ترحيب، في وقت بالغ الأهمية للاقتصاد الأميركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية
جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيديرالي
لا شك أن التلميح بتخفيف تشدد السياسة النقدية في الولايات المتحدة سيكون له آثار مهمة على مختلف اقتصادات العالم ومصارفه وشركاته، نظرا لوزن الاقتصاد الأميركي المعلوم والمعولم، وستحذو بقية المصارف المركزية حذو الاحتياطي الفيديرالي، ويفترض أن تنعكس تلك التوجهات الإيجابية في الأسواق، على رأسها "وول ستريت" في الخريف والشتاء المقبلين.
ولكن، مع التمعن في المحفزات الرئيسة التي قد تكون عجلت في اتخاذ الاحتياطي الفيديرالي خطوة كهذه، لا بد أن تكون الأولوية حاليا لتقديم الدعم للاقتصاد بعد صدور تقرير الوظائف الأخير الذي تمخض عن ارتفاع في معدل البطالة إلى 4,3 في المئة، ليس على نحو يؤشر الى ركود وشيك للاقتصاد الأميركي، ولكن مع ذلك فإن "المزيد من التباطؤ في سوق العمل لن يكون موضع ترحيب" بحسب قول باول، إذ يقترب سوق العمل في الولايات المتحدة من نقطة التحول، حيث يمكن أن يؤدي تباطؤ نمو الوظائف إلى ارتفاع أسرع في معدلات البطالة.
كما يأتي هذا التحول في وقت بالغ الأهمية والحساسية بالنسبة للاقتصاد الأميركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، ومع استمرار قلق العديد من الأسر في شأن تكاليف المعيشة المرتفعة على الرغم من انخفاض نسب التضخم.
"إعلان النصر" على التضخم
يدافع باول عن السياسة النقدية التقليدية التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيديرالي مؤكدا أنها "ساعدت في استعادة التوازن بين العرض والطلب الإجماليين، وتخفيف الضغوط التضخمية وضمان بقاء توقعات التضخم ثابتة بشكل جيد"، لا سيما مع الخروج التدريجي من جائحة "كوفيد-19" في عام 2021.
علما أن باول اعترف بأنه وزملاءه في بنك الاحتياطي الفيديرالي أخطأوا في تقدير التهديد التضخمي في أوائل عام 2021، أي مع تراجع حدة "كوفيد-19". في حينه، واعتبروا أن ارتفاع الأسعار هو نتيجة طبيعية لاضطرابات سلسلة التوريد المرتبطة بالجائحة، وأن الضغوط التضخمية هي حتما عامل موقت سيتلاشى "بسرعة إلى حد ما دون الحاجة إلى استجابة سياسية نقدية - باختصار، سيكون التضخم موقتا". وقد شاركهم في هذه الخلاصة معظم محللي ومحافظي البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة.
خفض تدريجي ستحكمه المؤشرات
وعلى الرغم من إعلانه تيسير السياسة النقدية في الفترة المقبلة، إلا أنه رسخ عدم مساومته على ما قد ينعكس سلبا على الاقتصاد الأميركي، وكان واضحا في أن "توقيت خفض أسعار الفائدة ووتيرته سيعتمدان على البيانات والمؤشرات الواردة، والتوقعات المستجدة، وتوازن الأخطار"، وليس على رد فعل من هنا أو حدث مقبل من هناك. وخلصت هذه التوقعات إلى إمكان خفض أسعار الفائدة تدريجيا بمقدار 25 نقطة أساس في كل من سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول.
وتؤكد مسيرة الفيديرالي حرصه الشديد ودقته في تحريك أسعار الفائدة صعودا أو نزولا. وما النجاح في الوصول إلى معدل تضخم بلغ 2,5 في المئة من ذروة بلغت 7,1 في المئة (مع ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك الى 9,1%) قبل عامين، إلا دليل على ذلك، وهو معدل بات قاب قوسين أو أدنى من النسبة المستهدفة عند 2 في المئة.
العودة إلى الهدف ليست آمنة تماما بعد، بحسب كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي
كما أن الفيديرالي كان قد توقع في العام المنصرم أنه سيخفض أسعار الفائدة ثلاث مرات في السنة الجارية، إلا أن ذلك لم يحصل مع تعثر التقدم في لجم التضخم في بداية 2024.
وجاء رأي كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي فيليب لين، متماهيا مع الاحتياطي الفيديرالي لجهة استمرار الحذر، إذ على الرغم من تسجيل خفوضات سابقة ولاحقة لأسعار الفائدة لدى البنك المركزي الأوروبي بمقدار 25 نقطة في يونيو/حزيران الماضي، وكذلك بنك إنكلترا، أشار لين إلى أن "العودة إلى الهدف ليست آمنة بعد"، في وقت يسعى المركزي الأوروبي إلى تحقيق التوازن الدقيق بين استقرار الأسعار ودعم النمو الاقتصادي.
الفرصة الأمثل للاستثمار
مع الانتهاء من "خطاب النيات" لباول في "جاكسون هول"، صعد مؤشر "ستاندرد أند بورز" (S&P 500) وانخفضت تاليا أسعار سندات الخزانة الأميركية نظرا لتحسن نشاط أسواق المال، فقد كان قرار خفض سعر الفائدة مرتقبا قبل انعقاد الاجتماعات، مما عزز أسس التداول خلال هذه الفترة. إلا أن انخفاض أسعار السندات في هذا التوقيت ليس إلا دعوة للمدخرين للاستثمار في هذه السندات قبل المضي قدما بخفض فعلي وجدي للفائدة، لضمان تأمين عائدات جذابة.
على الرغم من الحذر، لكن المناخ المالي والاقتصادي العام في اللحظة الراهنة، يبعث على التفاؤل، ويجعل من خفض الفوائد المقبل خطوة مرحبا بها بعد طول انتظار ... أهلاً بشهر سبتمبر.