نضطرّ في سفرنا إلى التخلّي عن أشياء لا تتسع لها الحقيبة، مهما نبغنا في حكمة تدبير طيها وتصفيفها وترتيبها. أشياء ندعها جانبا مرغمين أمام ثقل الحمولة وعدم استيعاب نوعية الزاد للفائض من كمية الزائد. هكذا وجدتني أمس أتخلى عن كتاب ضخم في مدينة شمالية، لم أجد له مكانا لا في حقيبة الظهر ولا ذات العجلات الأربع المسحوبة على الأرض، فيما أعود أدراجي من رحلة إلى بلدتي الأطلسيّة. غير أنني اهتديت وفق خاطر اللحظة، إلى اقتطاع قصاصات من الكتاب ذاته، تبصّرت فيها أهم ما يكتنزه من أوله إلى آخره. قصاصات متفرقة من هذا المتن وذاك وعندئذ خامرتني طمأنينة أو رضا بما اقترفته وزهدت في البقية بلا هوادة، بلا تأنيب ضميري كقارئ.
ذكّرني هذا الفعل الآثم والمبارك في آن بقصاصات أيّام الجامعة، في معترك الزمن الورقي بصدد بحث الإجازة، إذ كنا كطلبة باحثين نسلك طريقتين في تجميع المواد النوعية الصالحة لموضوع الدراسة، أولا اعتماد تقنية الجذاذات، وثانيا اعتماد أسلوب القصاصات.
- تقنية الجذاذة: انتخاب فقرات مكثفة لتدوينها في جذاذات، يمكن الاستناد إليها كمقولات لكُتّاب ونقاد ومفكرين وفلاسفة... لدعم المنحى التحليلي أو التأويلي لمحور من محاور البحث، هي محض عملية اصطفاء شذرات منتزعة من هذا الكتاب وذاك، تعزّز صلابة التمثيل للفكرة أو الموضوعة المراد استغوارها أو إضاءتها أو تفكيكها.
هذا النوع المبتكر من القراءة ينتصر لنزعة التكثيف والقفز الخلّاق
هذا النوع المبتكر من القراءة باعتماد تقنية الجذاذة انتقائيّ، ينتصر لنزعة التكثيف والقفز الخلّاق، فليس بالضرورة أن نذرع الكتب بالطول والعرض في ما يشبه ركضا أفقيا وعموديا، بقدر ما يقمن بالقراءة أن تكون متوثبة بألمعيّة، مكتفية بحذاقة اختيار فقرات بعينها، مشحوذة وحادة، هي في المحصلة موجز عمق الكتاب، شبيهة بالجرح الخفي الذي يسكنه ألم وعرس الكتابة في آن، أو الثقب الأسود الذي يبتلع خرائط المؤلَّف برمّته.
بفلسفة الجذاذات نتعلّم قراءة مغايرة، لا نسترخص فيها الكتب أو نتعامل معها باحتقار، بل ننحاز لشعريتها، وننصف جماليات خلقها النوعي. لا نختزلها عسفا إذن في شذرة لامعة تبرق لنا في منعطف من منعطفات متونها، بل نحفر في طبقاتها عن المعدن السري الذي صنعت منه، أو سنّت أسلحتها على حجره الحارق.
- أسلوب القصاصة: لا ريب أن عملية اقتصاص صفحات من كتاب، أو اقتطاع أنصافها أو أثلاثها من مجلة أو جريدة، يعدّ جريمة بصورة من الصور، لنقُل سلوكا جديرا بإدانة أخلاقية خاصة إذا ما كان الكتاب أو المجلة أو الجريدة خارج ملكيتنا وقد ارتكبنا الفعل خلسة عن سبق إصرار وترصد.
ينطوي أسلوب الاقتصاص على حرفية المحقّق، إذ يصير القارئ بطريقة القصاصات متحرّيا، كأنه يتقصّى دليلا بالاستناد إلى قرائن من أجل فكّ لبس جريمة، أو استجلاء غموض وقائع مبهمة.
عندما ننتزع قصاصة من كتاب لنحتفظ بها بَدَلَهُ هو، فإنما تعنينا القصاصة بشكل خاصّ، وبذا نهمل ما تبقى من الكتاب لأنه ينتمي لمشاع العام. وإذ نحتفظ بالقصاصة فهذا يعني أنها أولا أهم ما في الكتاب، ثانيا قد يكون كل الكتاب جديرا بالاهتمام غير أن تلك القصاصة منذورة لنسق عمل آخر، متعدّد ومتشعّب وشمولي، حينما نردفها إلى مجموعة قصاصات سابقة ولاحقة، اجتُزِئتْ هي الأخرى من كتب مغايرة، في أزمنة متباينة. ثالثا قد لا يعدو الأمر أن يكون رغبة ملحة في الاحتفاظ بالقصاصة لا غير، من منطلق افتتاننا بها واستئثارها بإعجابنا.
حينما نقتص هكذا مجزوءات من كتاب، ماذا يكون مصيرها؟ هل نعلقها على سبورة حائطية مثلما يفعل المتحري، المحقق، المخبر، بغية تدقيقها ومقارنتها بأخرى، بحثا عن نسق خفي في ما بينها، أو هندسة جديدة لعمل جمالي بالاحتكام إلى إنشاء علاقات فنية طارئة بينها وبين القطع الشبيهة والمختلفة؟ ربما نزوعا إلى فكِّ لغزٍ فعلا ورفع اللبس عن قضية شائكة.
هل نضعها في ملف بعد أن نستوفي قراءتها، والملف بالضرورة يشمل قصاصات أخرى قد تكون من نفس الحقل أو بعيدة، والملف ذاته مركون في جارور أو مهمل في رف إلى حين أو إلى نسيان مطبق؟
السخرية السوداء أو المفارقة بالأحرى حينما نضع القصاصة المجتزأة من كتاب بعينه داخل ثنايا كتاب آخر في مكتبتنا أو خزانتنا الخاصة. هكذا نقتلع نباتا من حقل أو مزرعة كتاب لنزرعه في حقل كتاب ثان بشكل تلقائي. نقحم القصاصة عنوة كعضو من أعضاء جسم متخلى عنه في جسم كتاب يستقبلها مرغما، فإما يستضيفها من حيث لا يعلم وتغدو متناغمة مع كينونته، أو يضيق ذرعا بها إذ هي تتنافر وهويته، ولا يعدو وجودها الطارئ أو اللقيط في مأواه أن يكون نشازا.
السخرية السوداء أو المفارقة بالأحرى حينما نضع القصاصة المجتزأة من كتاب بعينه داخل ثنايا كتاب آخر
هذا الهوس بالقصاصات، بالذات جمعها من مصادر مختلفة، وخلق التناغم الهارموني في ما بينها وأخرى، تَحقق ذلك بطريقة جيدة أو بطريقة سيئة، فالصورة الأمينة لهذا الأسلوب لا بد أن تحيلنا على مسألة فرانكشتاينية صرفة.
بالجذاذة تتكثف القراءة، تتأنّق، تنزع إلى حذاقة وألمعية سلستين، تلمح أكثر ما تفصح، تراهن على بلاغة الإشارة مقابل سيولة العبارة، إنها فلسفة انشطارية، متشظية في النظر إلى العالم والذات والأشياء.
وبالقصاصة تتحرّى القراءة لغز الكون، تجنح صوب خلق نسق ممكن، قد يلائم بصورة من الصور بين ما تفرق ولا يحتمل أن يجتمع أو يتناسق، إنها فلسفة المجزوءات ذات المنحى البوليسي في النظر إلى العالم والذات والأشياء.