توثّق الروائية الفرنسية الشابة ميليسا دو كوستا في كتبها ديناميكية الزواج ومعاني الحب، فتغوص في قلب العلاقات الزوجية بكثافة ودقة وحساسية سماوية، حتى أصبحت رواياتها من أكثر الكتب مبيعا في فرنسا، بعدما تربع قبلها على الأول مبيعا الروائي الفرنسي غيوم ميسّو. وهنا لا أعني أهمية الأول وسباق الربحية مع أخبار النشر التجارية والرقمية، بقدر ما أعني أن دو كوستا تغلبت على الأرقام، منذ أن كتبت الدراما دون أن تفكر أو تعرف بأن ما تكتبه دراما، مكتشفة أثناء الكتابة أنها تكتب دون تخطيط كما يفعل الروائيون، فاكتشف القراء إمكاناتها في إعادة بناء العلاقات العاطفية أو الزوجية أو العائلية، لدقتها ووعيها وإحساسها المتقدم كساردة.
المؤلفة الشابة لا تزال في السادسة والثلاثين من عمرها، أم لطفلين، وهي حديث أوساط الكتابة الشعبية في فرنسا اليوم بسبب قدرتها على التأليف الداخلي للإنسان، ولم أتعجب حين قرأتُ خلفيتها وحياتها القادمة من بيئة مهيأة لهذه المشاعر، في قرية بعيدة على حدود فرنسا، ومع والدة تعمل قابلة ووالد عامل. نتفهم جميعا من تجربتها كيف أن البيئة الطبيعية الصغيرة تصنع نورا في نفوس من يعيش فيها، حيث تكفي أحيانا مشاهدة التفاصيل اليومية المتكررة والبسيطة ومناقشتها من دون قيود.
ولأن لغة السرد بذاتها سفر شيق، ثمة منحى إنساني في كتاباتها الشاسعة وهي تخترق مخيلة الحب، وهو الحديث عن الإعاقة بين أحد الطرفين إن حدثت فجأة، في زمن التواصل الاجتماعي الإلكتروني السريع، وكيف يمكن الاستمرار وإعادة تأهيل الشعور بينهما إن أصاب أحدهما مكروه أو عاهة وهما في بداية الرحلة أو حتى منتصفها... فيأتي سردها سلسا حول الجوانب المظلمة في الإنسان، وكذلك القلوب التي يمكن أن نسمّيها قلوبا عملاقة، وهي تقوم بتشريح طبيعة الحب المعقدة وإمكاناته المستفيضة في أعماق الشخوص، حتى يظهر النور من الغموض، كلما تقدمتَ في الرواية.
يأتي سردها سلسا حول الجوانب المظلمة في الإنسان، وكذلك القلوب التي يمكن أن نسمّيها قلوبا عملاقة، وهي تقوم بتشريح طبيعة الحب المعقدة
إذن هي تكتب القسوة والعنف والخطر كجزء من الحياة، حتى تُظهر لمعانه في القلوب، ومدى قوة صمود الشريكين في حياتهما الغامضة، ودواخلهما وما يضمران من شعور لعله غير حقيقي دون أن يتمكنا من الوصول. والسرد في هذا المجال بلا شك قاتم، مع فارق أنها تسرد بنعومة، مثل أحد الزوجين الذي تعرض لحادث تزلج خطير أو دراجة ليصبح أسير كرسي متحرك ويمضي ثلاث سنوات في إعادة التأهيل، وهنا يأتي دور زوجته في السعي إلى تجاوز هذا الغضب الداخلي.
من يقرأ ميليسا دو كوستا، يشعر أنها مثقفة ومتفاعلة شعوريا وبشدة مع أحاسيس الناس ومشاعرهم والكلام الذي يدور في دواخلهم دون أن يبوحوا به، كما أنها مشغولة بقضايا النفس وكيف يتطور المجتمع ويتغير، وكيف يحب الإنسان مرة أخرى الشخص نفسه، لتنتقل من إعادة التأهيل الطبي إلى إعادة التأهيل العاطفي بعد الاعتماد على الطرف الآخر.
ينتظر القراء بالفرنسية بشغف روايتها الجديدة السادسة، في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لمواصلة الدخول في عوالمها السردية. وعلى الرغم من نجوميتها، هي شخصية متحفظة، بل مؤلفة حساسة تعيش عالمها الخاص، مثل أسلوبها الذي يدعوك إلى التفكير والتأمل، وإلا كيف استطاعت أن تحرك مشاعرنا حول ما نستبطنه، وحول الجانب المظلم فينا، وقمع بعضنا بعضا دون أن نعرف، حتى أن بعضهم يعتبر رواياتها خانقة، لكنني أجدها نقيض ما اعتدنا عليه، فهي مختلفة ونجمة جديدة في عالم الأدب تساعدنا في خوض المواجهة مع أنفسنا.