الانتخابات الجزائرية... مشهد التسعينات يطل برأسه من جديد

ثلاثة مرشحين عن القوى الوطنية والإسلامية والديمقراطية

أ ب
أ ب
رجل يمشي أمام لافتات انتخابية للمرشحين الرئاسيين، بما في ذلك الرئيس عبد المجيد تبون (وسط)، في 27 أغسطس، في الجزائر العاصمة

الانتخابات الجزائرية... مشهد التسعينات يطل برأسه من جديد

حتى العقد الماضي، كان عدد المرشحين الرسميين للانتخابات الرئاسية في الجزائر يتراوح بين ستة أو سبعة مرشحين موزعين على مختلف التيارات السياسية: الوطني والإسلامي والديمقراطي واليساري. لكن يبدو أن المشهد الانتخابي الحالي عرف انكماشا لافتا، إذ تقلص عدد المرشحين في القائمة النهائية للانتخابات الرئاسية المقررة في 7 سبتمبر/أيلول المقبل إلى ثلاثة.

وفي إطار تحليل هذا الانكماش وقبل المرور إلى الإجابة على التساؤلات المطروحة، ثمة ملاحظة ينبغي تسليط الضوء عليها وهي الفرز السياسي الواضح الذي أفضت إليه القائمة النهائية للانتخابات الرئاسية والتي تضم ثلاث مرجعيات أيديولوجية. فكل مرشح من الثلاثة يمثل تيارا سياسيا منفصلا: يوسف أوشيش (43 عاما) عن "جبهة القوى الاشتراكية" (أقدم أحزاب المعارضة الجزائرية المحسوب على التيار الليبرالي) وعبد المجيد تبون (الرئيس الحالي) مرشحا مستقلا، وحساني شريف عبد العالي (62 عاما) عن "حركة مجتمع السلم" ذات التوجه الإسلامي.

عودة الأقطاب الثلاثة

وصول ثلاثة مرشحين من قوى سياسية متباينة المشارب إلى سباق الرئاسة الجزائري المرتقب الشهر المقبل، يُعيدنا حسب الدكتور لطفي دهينة الأستاذ والباحث في العلوم السياسية إلى بداية التسعينات. ويقول في حديثه لـ"المجلة" إن "هذه التيارات الأساسية هي نفسها التي أفرزها الانفتاح السياسي في تلك الحقبة بعد مخاض عسير وتجربة طويلة دامت أكثر من ثلاثين سنة كان فيها (عشرية حمراء)، وقد شهدت هذه الفترة حالة استقطاب كبير بين التيارات الثلاثة وحتى انخراط منظمات المجتمع المدني في هذا السجال. وأعقبتها عشريتان كاملتان من حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة التي عرفت تشتت أحزاب وتبعثرها وتماهي أخرى مع السلطة وخروج أحزاب من رحم الأحزاب الموجودة في محاولة لإيجاد بدائل عن هذه التيارات أو ممازجة للأفكار المختلفة وخلق تيارات جديدة".

أ ب
مؤيد للرئيس الجزائري والمرشح لإعادة انتخابه عبد المجيد تبون يسير على كورنيش البحر، قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 7 سبتمبر، في الجزائر العاصمة، 21 أغسطس

وتُؤكد التطورات الأخيرة في المشهد السياسي الجزائري بحسب دهينة "العودة إلى التيارات الثلاثة الأساسية والتي أثبتت تجذرها في عمق الساحة السياسية الجزائرية وتنبثق من توجهات المجتمع دون مساحيق تجميل، مع وجود تباين في قوة كل تيار أو توزيعه الجغرافي". وباختصار، يجزم المحلل السياسي في قراءته بأن "المشهد اليوم أقرب إلى بداية التسعينات أي مع الانفتاح السياسي، مع فارق أن تلك الفترة عرفت زخما سياسيا كبيرا وبروز قيادات وازنة لمختلف الأحزاب وقوة في الطرح وفي الأداء السياسي والمشاركة السياسية من المواطن. أما اليوم فنلمس حالة من الفتور والتيئييس وعدم الإيمان بجدوى العملية السياسية برمتها وحتى القيادات التي تتصدر المشهد السياسي ليست بنفس قوة وأداء القيادات السابقة".

وأبانت أول انتخابات تعددية جرت في البلاد مطلع تسعينات القرن الماضي، عن هيمنة الإسلاميين والديمقراطيين قبل أن يُلغى المسار الانتخابي وتدخل البلاد في حرب أهلية راح ضحيتها الآلاف من الجزائريين.

لكن بعد انقضاء هذه الحقبة، تشعبت الساحة السياسية وخرجت أحزاب جديدة من رحم التيارات الثلاثة على غرار "التجمع الوطني الديمقراطي" (الحزب الثاني للسلطة في البلاد)، وخرج من رحم التيار الإسلامي أحزاب عديدة وهي: "حركة الإصلاح الوطني" و"جبهة العدالة والتنمية" و"حركة البناء الوطني" و"جبهة التغيير" و"حركة البناء الوطني اليوم".

الوضع ذاته ينطبق على العلمانيين. إذ شق كريم طابو عصا الطاعة داخل "جبهة القوى الاشتراكية" (أعرق حزب معارض بالجزائر) وأسس "حزب الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي"، لكن دون أن يحصل على اعتماد للنشاط، إضافة إلى بروز أحزاب أخرى على غرار "حزب العمال" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" وعشرات الأحزاب التي توصف بـ"المجهرية".

إفرازات "حراك 22 فبراير"

ومن زاوية نظر عبد السلام فيلالي، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة عنابة فإن "برامج المرشحين تحيل إلى المجال السياسي الذي تشكل في جزائر التعددية السياسية بأبعاده الثلاثة: الوطني، والإسلامي، والديمقراطي، لكن الكفة ترجح نحو الرئيس تبون مقارنة بمنافسيه لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار دعم وتأييد فئات المجتمع والمساندة من قبل أحزاب سياسية وازنة".

يربط خبراء ومحللون سياسيون عودة التقسيم التقليدي للساحة السياسية في الجزائر إلى الواجهة بالاعتبارات القانونية التي فرضها قانون الانتخابات الجديد وصعوبة جمع التوقيعات الفردية

لكن وحسب الدراسة التحليلية التي قدمها الدكتور فيلالي لـ"المجلة" فإنه "ينبغي النظر إلى هذه التطورات في اتصال مع التغيير الراديكالي الذي حدث في بنية النظام السياسي بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019، الذي يندرج فيه مسعى ما اصطلح عليه في أدبيات هذه المرحلة بـ"الجزائر الجديدة" التي تعني أول ما تعنيه القطيعة مع ممارسات النظام السابق في ما يتعلق أساسا بالانتهاء من الحكم الفردي وتقديس شخصية الحاكم وأن يكون هدف الحكم أولا وأخيرا هو خدمة الشعب، ومعه محاربة الفساد واحترام مؤسسات الدولة، فهذه مقتضيات ينبغي أن نضعها في الحسبان، وهي كانت ضمن أهداف الولاية الرئاسية الأولى للرئيس تبون الذي يسعى هذه المرة للحصول على تزكية الشعب لمنجزه، كاستمرار ولكن أيضا مواصلة عمل التخلص من ترسبات الحكم السابق من حيث اختيار الرجال وتطبيق البرنامج الاقتصادي وتجاوب المجتمع مع هذه التغييرات، لأنه ومن الناحية الاجتماعية، لا يمكن إحداث التغيير السياسي-الاقتصادي دون إعادة هيكلة بنى المجتمع".

أ ب
تبون يلقي خطابا خلال إطلاق حملته الانتخابية في 18 أغسطس في قسنطينة شرقي الجزائر

غير أن أكثر ما يهم في الانتخابات الرئاسية الجزائرية بشكل عام وفق الأكاديمي الجزائري عبد السلام فيلالي، هو أنها "تجرى في ظل استقرار سياسي غير مسبوق ويظهر ذلك في محتوى النقاشات والمبادرات المتصلة بها، وكذلك في ظل وضع اقتصادي يمكن وصفه بالواعد تبعا للتغيرات والمشاريع التي تنفذ على ضوء الأهداف المرسومة".
ولكن ومهما كان الحكم على هذه الانتخابات وبعيدا جدا عن الأحكام الظرفية، أي بوضعها ضمن رؤية أشمل لتطور النظام السياسي الجزائري بمنظومة حكمه وصناعة القرار، فإنه يمكن القول حسب الأكاديمي الجزائري أن رهان التغيير هو رهان بعيد المدى لأنه من العسير جدا التخلص من ترسبات الماضي ومن الصعب تحقيق هذه الأهداف في ظل الوضع المحلي والدولي الحالي، ولذلك يمكن التأكيد على أن هذا الرهان يتجاوز مدة العهدة الرئاسية القادمة فيما يخص تحقيق هذا التغيير".
وعليه ينظر عبد السلام فيلالي إلى "هذا الموعد الانتخابي الهام من منظور التغيير الشامل وأهدافه البعيدة المدى بوجود دعائم قوية فيما يتعلق بالاستقرار الداخلي وعدم وجود إكراهات خارجية (كالديون الخارجية) وأيضا استقرار سوق الطاقة الدولية التي لا تزال الجزائر تعتمد عليها في تحصيل وارداتها من النقد الأجنبي، لذلك فالمؤشرات العامة تدعو إلى التفاؤل الحذر ما دمنا لم نصل بعد إلى بر الأمان في ما يخص المطالب الاجتماعية (البطالة، السكن، المنظومة الصحية) وبناء قاعدة اقتصادية صلبة، فما ننفذه اليوم يؤثر حتما على قرارات الغد".

تركيبة المجتمع الجزائري

ويربط خبراء ومحللون سياسيون آخرون عودة التقسيم التقليدي للساحة السياسية في الجزائر إلى الواجهة بالاعتبارات القانونية التي فرضها قانون الانتخابات الجديد وصعوبة جمع التوقيعات الفردية، وهنا يقول الكاتب والمحلل السياسي عمار سيغة في حديثه إلى "المجلة" إن التقسيم السياسي الذي أفضت إليه الانتخابات الرئاسية الجزائرية له علاقة بعدم استيفاء الشروط الموضوعية والشكلية الواجب توفرها وفقا للقانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات، وهذا راجع طبعا لضعف الهيكلة وغياب الجدية في إعداد الملفات التي حام حولها الكثير من الارتجال السياسي". وهو الملمح الذي رصده الدكتور مخلوف وديع، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة، حيث يقول إنه "بالرجوع للمرشحين الثلاثة في الانتخابات الرئاسية فالتيارات التي ينتمون إليها هي من لها قواعد متجذرة في أوساط الجزائريين والمنتخبين المحليين اللازمين لتوفير التوقيعات المنصوص عليها قانونا في ملف الترشح للانتخابات الرئاسية حسب قانون الانتخاب الجزائري".

التيارات التي ينتمي إليها المرشحون الثلاثة لها قواعد متجذرة في أوساط الجزائريين والمنتخبين المحليين

ويُكرس هذا الفرز السياسي على أساس المرجعيات الأيديولوجية: التيار الوطني، التيار المحافظ ذو الخلفية الإسلامية والتيار الديمقراطي، وفق مخلوف وديع "عدم إقصاء أي تيار في الانتخابات الرئاسية الجزائرية على أساسي أيديولوجي أو سياسي، فكل من تتوفر فيه شروط الترشح حسب قانون الانتخاب خاض السباق الرئاسي".
ويعكس التصنيف السياسي الحالي حسب البروفيسور رابح العروسي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر-3 "تركيبة المجتمع الجزائري من حيث الوجود لهذه المشارب السياسية التي لها بعد تاريخي وسياسي، وجميعها لا يخرج عن بيان أول نوفمبر (يعتبر أول نداء جبهة التحرير الوطني الجزائرية والوثيقة الأولى التي أعلنت عن اندلاع الثورة ضد الاحتلال الفرنسي وله أهمية تاريخية كبيرة)".

ويقول العروسي في حديثه إلى "المجلة" إن "هذه المدارس الثلاث تعتبر رافدة من روافد الحركة الوطنية في المجتمع الجزائري التي تسعى جاهدة لبناء الوطن".

font change

مقالات ذات صلة