"سيكولوجية التوتاليتارية": سطوة اليقين التكنولوجي وتدمير الحريات

كتاب جديد للهولندي ماتياس دسميت يشكّك في "البديهيات" الراهنة

Handout/Mattias Desmet
Handout/Mattias Desmet
ماتياس دسميت

"سيكولوجية التوتاليتارية": سطوة اليقين التكنولوجي وتدمير الحريات

خرج حديثا إلى النور بالعربية عن "دار الساقي" بترجمة مالك سلمان كتاب "سيكولوجية الديكتاتورية" للمعالج والمحلل النفسي ماتياس دسميت، الذي يشغل منصب أستاذ علم النفس السريري في "جامعة غينت" البلجيكية. يمكن النظر إلى هذا الكتاب بوصفه أحد الكتب القليلة الضرورية والأساسية. فالنقاش الذي يثيره حيوي ومباشر ومتصل بفعالية بالسياقات الرمزية والسلطوية وآليات بناء حالات الاستلاب الجماعية التي تمارس على الناس وتحولهم إلى كائنات تقاتل ضد خياراتها ومصالحها.

ولما كانت التوتاليتارية مفهوما شائعا وخاضعا للكثير من الدراسات والقراءات والتفسيرات، فإن أي باحث يستعمله يخاطر بالوقوع في فخ التعريفات السابقة وحدودها، مما يفترض حتما البحث عن عناوين جديدة قادرة على تفسير عمل التوتاليتارية في عالمنا المعاصر الذي بات مشبعا بالعلموية وسيطرة التكنولوجيا.

يفكك دسميت في سياق تحليله أشكال التوتاليتارية الحديثة والأنماط الشائعة من التصنيف العلمي، التي تذهب في اتجاه منح صفات اليقينية التامة واستحالة الخطأ على ظواهر لم تخضع لبنى تجريبية محكمة وصارمة، ويناقش النتائج التي يُتوصل إليها، لافتا إلى افتقارها إلى الدقة وأنها في طبيعتها وشكلها ومنطقها تستجيب إلى نوع من العلم الأيديولوجي السائد الذي يضفي صبغة علمية على المعتقدات والعقائد.

يفكك دسميت في سياق تحليله، أشكال التوتاليتارية الحديثة والأنماط الشائعة من التصنيف العلمي

يقرأ منطق التعامل مع أزمة كوفيد19 كمثل بارز على فشل العقل الإحصائي، ويرى في إخضاع الأحوال الإنسانية والحاجات البشرية إلى المنطق اليقيني خللا مرعبا ينذر بنوع من الشمولية الجديدة القائمة على التفكير الآلي وإجبار الناس على تجاهل مصالحهم الخاصة والدفع في اتجاه انعدام التسامح والانفصال عن الطبيعة.

أزمة كوفيد19 والشمولية العلمية

تعاملت السلطات في كل بقاع العالم مع وباء كوفيد19 بتفعيل إجراءات الحجر الصحي وتقييد الأعمال الاقتصادية وفرض العزلة الاجتماعية ومنع التواصل. كان هذا الشكل من الإجراءات سياقا عاما تفاوتت الدول في درجة الشدّة في تطبيقه، واقترن بأبحاث ودراسات علمية تتوقع أعدادا كبيرة من الضحايا، وتحول الحديث عن أصل الوباء ومنشئه إلى عنوان للاتهامات السياسية والخطاب العنصري الذي يذهب في اتجاه أقوام وتشكيلات بشرية معينة ويتهمها بالوقوف وراء ظهوره.

AFP
نساء ينتظرن دورهن لتلقي لقاح ضد كوفيد19 في الهند، 2 أغسطس 2021

وجد الناس أنفسهم مجبرين على إطاعة التوجهات العامة والصارمة وغير قادرين على النقاش في صحتها، وتحولت تلك الطاعة الإلزامية والإكراهية إلى نوع من الحاجة الملحة والمشتركة. لا يفترض دسميت أنه يجب عدم أخذ إجراءات ومعاداة العلم، ولكنه يطرح أسئلة ملحة حول الآثار السلبية الحادّة للإجراءات نفسها، التي أدّت إلى سقوط الكثير من الضحايا غير المعترف بهم والذين حرموا من حق الاعتراض على طبيعة الإجراءات التي وُجدت أساسا من أجل حمايتهم.

يحتج الكاتب على سحب الحق في نقد الآثار الخطيرة للعزلة وفقدان الموارد مع منع النشاط الاقتصادي وعلى غياب التسامح إزاء كلّ رأي آخر، فالعزلة المفروضة تسبّبت بصعوبة الوصول إلى من يحتاجون إلى مساعدة عاجلة، كما أن الكثير من الناس فقدوا حياتهم بسببها ولم يُحصوا ضمن ضحايا الوباء نظرا إلى صعوبة الحصول على الأدوية والمستلزمات الضرورية. لقد أُدرج الجميع في عداد ضحايا الوباء واستُعملوا للدلالة على علمية التوقعات وصحتها ويقينيتها، وأُسّس عبر هذا النسق من النماذج العامة لآليات العمل والإحصاء شكل فعال من الشمولية يعتمد على سردية اليقين العلمي التكنولوجي الذي لا يقبل الجدال.

أخطار تلك السردية أنها تبث مباشرة تصنيفات حاسمة تدرج من يعترض عليها في عداد المتخلفين والجهلة والبدائيين، وهي تصنيفات تشرّع الاستبعاد والتجاهل والإقصاء وتحمل في طبيعتها مواقف متعالية ونابذة وصلت إلى حدّ تقرير من يستحق الحياة ومن لا يستحقها، ويمكن لمثل هذه التصنيفات أن تطاول شعوبا وأعراقا كاملة.

سطوة الحشد

والعقاب على الاعتراض فوري ومباشر ولا يحتاج تدخل السلطات، فالرغبة العارمة في البقاء داخل ما يسميه الباحث "الجمهرة" أو سطوة الحشد طاغية الى درجة أنها تجعل ضحاياها أنفسهم يؤدّون دور منفذي الأحكام، وهكذا يمكن أن نعثر على عمليات حرق ساحرات معاصرة مسرفة في القسوة تحت راية الانتماء إلى التحديث والعلم.

وكان لافتا أن الردود على الكتاب في موقع "غودريدز" تعتبر منطق دسميت في المقاربة بين الاستجابة لمتطلبات الوقاية من وباء كوفيد19 وبين الشمولية جدالا صبيانيا. يقول أحد المعلقين: "هل يعتقد دسميت حقا أن استجابة كوفيد-19 تشبه الشمولية أكثر من منكري العلم والمتعصبين الدينيين في العديد من الأديان الذين يقتلون الكفار أو من لا يؤمنون بالإله نفسه؟ هل يجب أن نقلق أكثر في شأن الذين يستخدمون الحقائق بشكل تجريبي والتي قد تكون فوضوية ومتناقضة في بعض الأحيان بدلا من الذين يستخدمون غرائزهم لحل المشكلات مثل ترمب الذي يثرثر كثيرا؟".

shutterstock

يعبّر النقد الموجه الى دسميت عن التباين بين تيار الليبيرالية الديمقراطية المؤمن بالتقنية وبين الخطاب الجمهوري التقليدي المحافظ. لا يستجيب الكتاب فعلا إلى تلك الصراعات بل يمكن اعتباره ناقدا صلبا للتوجهات العامة التي تحكم منطق السلطات ليس في أميركا فحسب ولكن في العالم بأسره، إذ يعتبر أن آليات التوجيه والتنويم المغناطيسي الجماعي الذي تمارسه السلطات والذي يزعم امتلاكه نوعا من الإحكام المطلق إنما ينطلق من العناصر نفسها، سواء أكان أصحابه يدّعون النطق بلسان العلم أم التقاليد والعقائد.

 أخطار تلك السردية أنها تبث مباشرة تصنيفات حاسمة تدرج من يعترض عليها في عداد المتخلفين والجهلة والبدائيين

يفرق ماتياس بين العلمي ومنطق تلقيه واستقباله، معتبرا أن ذلك الأخير هو ما يصنع مفهوم الشمولية ويجرد العلم من علميته وإنسانيته، فاللقاح على سبيل المثل منتج علمي ينطوي على بنية تجريبية لا يمكن أن تكون مطلقة. والمشكلة التي يثيرها، لا تعود إلى النقاش حول إذا كان يجب تلقيه أو لا، ولكن في الأشكال التي فُرضت للتعامل معه، والتي حولته من منتج طبي إلى عنوان للإيمان بالعلم والقبول بالسلطات التي تنشأ عنه. لقد صُنع مجال تحديد وتصنيف يقترب في صفاته من القداسة، يطرد من يرفضه ليس من جنة العلم فحسب بل من العالم بأسره، فيصبح ممنوعا من السفر ومن دخول المؤسسات، وتفرض عليه حالة من الإقصاء والعزلة والنبذ توازي الحكم بالإعدام الميداني من دون محاكمة ومن دون أن يُمنح حق الدفاع عن النفس، حتى لو كان يمتلك حجة ذات طابع علمي، فالعلم حين يتأدلج يصبح غير حقيقي وغير علمي.

عقلنة اللاعقلانية

تعتمد الشمولية المعاصرة في سيرورتها المتواصلة على تنظيم خطاب يسعى إلى عقلنة اللاعقلانية وتقديمها في إطار يبدو في الظاهر مدعوما بالحجج، ولكنه يفتقر إلى عناصر الإثبات والإحكام. يُدمج غالبا خطاب يدّعي العلمية بالحسّ  الأخلاقي ومصلحة الجماعة والحفاظ على الانتظام العام، ولكن أي إحالة إلى واقع ما يجري فعلا في المجال العام تبرهن أن السلطات في العالم لا تعير المسألة الأخلاقية اهتماما إلا في إطار توظيف سياسي وسلطوي يصبّ في تمكين عمل الشمولية وتثبيتها.

الاستجابة الدولية لكوفيد19 وتماثل آليات العمل بما تفرضه من أحوال استثنائية تجيز قمع الحريات وتقييد التواصل ومنع الاحتجاج تحت عنوان حماية المواطنين، وإنشاء نسق قيم أخلاقي يجعل المعترض بغض النظر عن وجاهة اعتراضه بمثابة المجرم، كل هذا يسقط إذا ما قيس بأحوال الجوع في العالم على سبيل المثل. يسجل موت أكثر من 35 ألف طفل سنويا بسبب الجوع ولا تحشد الدول طاقاتها ولا تستنفر لاتخاذ إجراءات طارئة لحل هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة والمتصفة ببعد أخلاقي، ولا تدرجها في عداد أحوال الطوارئ التي تستوجب تدخلا فوريا وحاسما.

السبب في ذلك أن علاج مثل تلك الأزمة لا يتيح خلق نمط سلطة شمولية وتعزيزه، ويفترض قبل كل شيء أن تتخلى الدول عن غرورها وتعمد إلى إنشاء نوع من التعاون العالمي الذي يمنح الأولوية لمعالجة الأزمات ذات الطابع الإنساني والحدّ منها، ولكن ذلك لن يكون ممكنا بالطبع لأنه ليس استثمارا سلطويا ناجحا.

أحكام باردة

لقد عُقلن الجوع وموت الأطفال وتطويع الفكرة وإدراجها في عداد الأزمات التي تكاد تتخذ صفة الطبيعية والعادية والتي لا يؤدّي وجودها إلى أي خلل في انتظام عمل آلات السلطة ولا يفكك أخلاقياتها. فالتجريد الذي ينشأ عن تعميم المنطق العلمي الزائف، يدعم أحوال التخويف والعزلة ويعمل على دفع الناس إلى القبول بعدم تلبية حاجاتهم، ويولّد نسق أحكام باردا يمكنه ببساطة إدراج موضوعات عريضة مثل موت الأطفال جوعا في عداد الأعراض المقبولة لشفاء العالم من الأخطار الكبرى التي تحدّدها البنى السلطوية التوتاليتارية.

عدم تلبية الحاجات والعزلة والانقطاع عن التماس مع الذات ومع الطبيعة، وتحول الناس إلى ذئاب تكنولوجية تختفي وراء الآلات، ولا يمكنها التعرف الى العالم ولا الى ذاتها ليست أخطارا، بل يعتبرها منطق الشمولية الذي نحيا فيه بمثابة الميزات التي يجب الاحتفاء بها.

تصنع الجمهرة تعريفات جديدة للكائن البشري. ذلك الإنسان يمكن وصفه بأنه كائن التخلي التام الذي يرضى بأن تُسحب منه خياراته وحريته وتفضيلاته وخصوصيته وحقه في الاعتراض والمساءلة واختيار طريقة العيش مقابل البقاء ضمن شبكة الأمان الوهمي المتولدة من الانتماء إلى الحشد، وهو انتماء بات مع التسارع التقني غير متطلب للحضور الجسدي المباشر بل يمكن التعبير عنه وتبنيه من وراء الشاشات.

AFP
امرأة تطعم طفلها الذي يعاني من سوء التغذية بحقنة في مركز علاج في منطقة خوخة بمحافظة الحديدة غرب اليمن في 11 يوليو 2024

الحاجات التي لا تُلبى لا بد أن تنفجر وتفجر السلطة التي تعيقها وتكبتها، فالإنسان كما يؤكد دسميت كائن غيري يجد نفسه عبر الالتقاء بالآخر والطبيعة. وإهمال جوانب التواصل الجسدي والاتصال بالطبيعة يعطل نمو إنسانيته فيتحول إلى كائن آلي يفتقر إلى التعاطف والتسامح والرغبة في التفاهم مع الآخرين والتعاون معهم. من هنا، فإن ذلك النظام العام الشمولي معرض للانهيار تحت ثقل وزنه الخاص، إذ أنه، وخلافا لأنماط الشمولية السابقة التي كانت تتميز بوعي منشئيها بما يفعلونه وقدرتهم على توجيهه والاستفادة منه، فإن النظام الجديد أعمى بالكامل والمستفيدون منه هم أيضا ضحاياه ولا يستطيعون النجاة منه.

تحث السلطات التوتاليتارية الناس على التماهي معها ضد أنفسهم لتخلق الإنسان الآلي الذي يستجيب للبيانات والتقارير 

يقترح دسميت العودة إلى المقاربة الصوفية وتقدير العلم الإنساني والاستفادة من القصص والأساطير والفكاهة والتجارب الفورية التي تنتج معرفة إنسانية مختبرة ومحققة، ويدعو إلى التماهي مع الوجود والمفاهيم والأشياء كنسق يسمح بالوصول إلى معرفة حقيقية وإنسانية. المعرفة الإنسانية النهائية، مثلما يحدّدها، "تقع خارج الإنسان، فهي تنبض في جميع الأشياء ويمكن للإنسان أن يتلقاها من خلال توليف نبضه وفقا لتردد الأشياء، وكلما نجح الإنسان في تحييد تحيزاته ومعتقداته، تمكن من التناغم مع حركة الأشياء المحيطة به وتلقي المعرفة الجديدة. هذا أحد التأويلات الممكنة لأطروحة رينه ثوم القائلة إن العلماء العظام لا يملكون بالضرورة قدرة استثنائية على التفكير المنطقي، بل قدرة هائلة على التماهي مع الأشياء التي يدرسونها".

تحث السلطات التوتاليتارية الناس على التماهي معها ضد أنفسهم ووجودهم لتخلق الإنسان الآلي الذي يستجيب للبيانات والتقارير والإحصاءات والمصاب بعجز أصيل عن رعاية وجوده، وعن التعاطف وتلقي الجمال وتمثل الأفكار والقيم والحقائق.

font change

مقالات ذات صلة