حيفا- تتكثف دعوات الإصلاح في الحركة الوطنية الفلسطينية على خلفية المجزرة المستمرة التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزة، ويحاول البعض تصوير النقاشات كأنها "اكتشاف جديد" وبداية جديدة لحيثيات قد تؤدي إلى استفاقة من الوضع الفلسطيني الكارثي المتسم بانعدام الأداء الوطني الجماعي في مواجهة واحدة من أعتى جرائم الحرب، والتي عرفت في دعوى جنوب أفريقيا أمام المحكمة الدولية بحرب "الإبادة الجماعية" ضد أهل غزة.
ونقاشات الحركة الوطنية حول ضرورة الإصلاح وإعادة البناء وإنقاذ الوضع الفلسطيني وما يشبهها من الإصلاحات، ليست جديدة بل قديمة ومنذ بدايات تبلور حركة وطنية فلسطينية تحت الانتداب البريطاني، مرورا بتجربة إعادة البناء بعد النكبة ووصولا إلى ما بعد أوسلو. ولعل أكثر الحراكات المتصلة بذلك هي تلك التي ارتبطت بمعارضة قيادة الحاج محمد أمين الحسيني للحركة الوطنية في بداياتها والتي تبلورت فقط في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبداية الانتداب البريطاني، وإن كانت هنالك إرهاصات وأفكار قبل ذلك. شملت معارضة قيادة المفتي تيارات وأصوات مختلفة، منها ما ارتبط بعائلة النشاشيبي وخلافها "القبلي" مع عائلة الحسيني وتطلعها لتبوؤ أحد أبنائها منصب القيادة، بدلا عن المفتي المنتمي لعائلة الحسيني المنافسة لهم. لكن معارضة المفتي وقيادته لم تقتصر على ذلك، فقد شملت كذلك تيارات قومية مثّلها بالأساس حزب "الاستقلال" الذي أنشئ عام 1932، إضافة إلى قوى يسارية- شيوعية وقوى ليبرالية ناشئة. انقسم المجتمع الفلسطيني، بالأساس بين من أيّدوا المفتي وقيادته ومن أيّدوا راغب النشاشيبي وتطلعه لتبوؤ منصب القيادة. وشمل ذلك خلافات ودسائس وتهما بالخيانة مقابل التشدد والقيادة غير الحكيمة، إلخ. وكما هو معروف فإن الأمور تدهورت إلى تصفيات متبادلة وصلت الذروة في خضم الثورة الفلسطينية (1936-1939). ولا يمكن- سياسيا وعمليا- إعفاء هذه الخلافات من المساهمة في الهزيمة التاريخية للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية إبان النكبة عام 1948.
من جهة أخرى، هناك الهزيمة والانهيار الوطني الذي ترافق مع اللجوء وإقامة الدولة اليهودية وسيطرتها على معظم فلسطين، وترافق ذلك مع سيطرة فعلية لباقي أجزاء فلسطين من الجيش الأردني في الضفة الغربية والقدس والجيش المصري في قطاع غزة، أي اختفاء أي سيادة حقيقية أو متوخاه لحركة وطنية تمثل أهل البلد الأصليين. مبادرة بعض الفلسطينيين لإقامة حكومة عموم فلسطين في غزة بقيادة حلمي عبد الباقي مجرد ملاحظة هامشية في تاريخ يتصف بالعجز والانكفاء وصولا إلى النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، ومبادرة ثلة من الشباب الفلسطيني في مخيمات اللجوء وبلدان الشتات بقيادة ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف لإقامة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) والتي دخلت بعد أقل من عقد على إقامتها إلى معمعة الخلافات الداخلية والتهم المتبادلة، وخصوصا مع قيادة "منظمة التحرير" التي بادر لإقامتها الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتشكل قيادة موحدة متحدثة باسم الفلسطينيين وممثلة لتطلعاتهم. وهذا تحديدا ما جعلها عرضة لتهمة التبعية ومجاراة مصالح دول تريدها أداة لتنفيذ "أجندات غير فلسطينية".
أدت الهزيمة العربية في يونيو/حزيران 1967 إلى تراجع المد العربي- الناصري، وإلى ضربة جدية لقيادة "منظمة التحرير" التي دعمتها الجامعة العربية وعبد الناصر، بحيث استقال أحمد الشقيري ومن بعده القيادة الرباعية بقيادة يحيى حمودة، واستلمت حركة "فتح" دفة القيادة وسيطرت، عمليا، بقيادة عرفات على الوضع الفلسطيني وصولا إلى وريث عرفات– محمود عباس.
وقد تخللت مرحلة عرفات خلافات فلسطينية جدية ودعوات للإصلاح شملت مستويات مختلفة من الصدام وتراشق التهم، داخليا في المنظمة بالأساس من التيارات المناوئة لـ"فتح"، وتحديدا من الجبهتين "الشعبية" و"الديمقراطية". لكن الخلافات المركزية كانت داخل حركة "فتح"، وبالأساس تشكل التيار الإصلاحي بقيادة أبو صالح وأبو موسى بدعم جدي من النظام السوري، وقيامهما بإعلان الانشقاق واتهامهما لعرفات والقيادة الفلسطينية بالفساد وبالانحراف عن درب التحرير للحركة الوطنية وصولا إلى إعلان العصيان وبدء حرب المخيمات بين جماعات فلسطينية مسلحة، أهمها ما حصل في طرابلس (لبنان) عام 1983. ألقى هذا الخلاف بظلاله على الوضع الفلسطيني العام، وعمليا كان أحد أسباب اندفاع عرفات للتوقيع على "اتفاق عمان" عام 1984 مع الملك الأردني، الحسين بن طلال، والبدء في التجهيز لإقامة الوفد الأردني- الفلسطيني المشترك الذي شارك بعد ذلك في قمة مدريد (1991) وفي مفاوضات واشنطن، التي انقلب عليها عرفات وانقلبت إسرائيل كذلك، مع التوصل إلى اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية. في الأثناء نشطت دعوات "ضرورة" إعادة اللحمة والاتفاق على مشروع وطني جامع، مع الإصرار على أن "منظمة التحرير الفلسطينية" هي العنوان لذلك، لكن تلك الدعوات لم تؤخذ جديا من قبل المتنفذين في التيار المركزي للحركة الوطنية ولا في قيادات المعارضة. وعموما قام عرفات بالمناورة وبتنفيذ ما رآه مناسبا من دون العودة لا للمعارضة ولا لقيادات "فتح" التي اعترضت أو ناقشت تصوراته وخططه.