أوكرانيا تباشر "خطة النصر" لإنهاء الحرب

موسكو تتجاهل الوقائع العسكرية في كورسك

 رويترز
رويترز
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أثناء مؤتمر صحافي في كييف في 27 أغسطس

أوكرانيا تباشر "خطة النصر" لإنهاء الحرب

للمرة الأولى منذ أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يسمى "عملية عسكرية خاصة" لغزو أوكرانيا في 2022، باتت قدرة الجيش الأوكراني على تنفيذ هجمات واسعة النطاق داخل الأراضي الروسية تشكل ضغطا متزايدا على الزعيم الروسي لتحقيق النصر الذي وعد به بثقة كبيرة في بداية هذا الصراع.

وبحسب القائد العسكري الأعلى في كييف، الجنرال أوليكساندر سيرسكي، فإن القوات الأوكرانية تسيطر الآن على نحو 1294 كيلومترا مربعا من الأراضي الروسية، بالإضافة إلى 100 نقطة سكنية، وذلك عقب الهجوم المفاجئ الذي شنته في منطقة كورسك الجنوبية الروسية في أوائل أغسطس/آب.

وفي مناورة أدهشت الكثير من القادة الغربيين، استغل الآلاف من الجنود الأوكرانيين المدربين والمسلحين جيدا ثغرة في الدفاعات الروسية على الحدود، محققين بذلك أكبر مكاسبهم في الصراع المستمر منذ أكثر من عام ونصف.

وفي تطور دراماتيكي وغير متوقع في مجريات الحرب، يمثل الهجوم الأوكراني عبر الحدود على منطقة كورسك المرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي يتمكن فيها جيش أجنبي من اجتياح الأراضي الروسية.

وأثار الهجوم رد فعل عنيفا من الكرملين، حيث تعهد بـ"طرد العدو" من الأراضي الروسية. وفي الوقت نفسه، يتجنب بوتين بشكل متعمد وصف الهجوم علنا بأنه "غزو"، في محاولة لتفادي إثارة الذعر بين المواطنين الروس.

ومع ذلك، لا شك أن النجاح الذي حققه الهجوم الأوكراني قد قلب موازين الصراع بشكل كبير لصالح كييف، حيث يبدو أن الأوكرانيين مصممون على تعزيز تفوقهم من خلال السيطرة على المزيد من الأراضي الروسية. فبعد نجاح هجومهم الأولي في منطقة كورسك، ترددت تقارير تشير إلى أن القوات الأوكرانية تنفذ عمليات عبر الحدود في منطقة بيلغورود الروسية المجاورة أيضا.

وتفيد التقارير الواردة من المنطقة بأن قوة أوكرانية قوامها 200 فرد، مدعومة بمركبات مدرعة، شنت هجوما على نقطة تفتيش حدودية في نيكوتييفكا. وعلى الرغم من أن مدونين عسكريين روس قد أبلغوا عن هذا الهجوم، فإن مدى الاختراق الأوكراني في بيلغورود لا يزال غير واضح، حيث أكد المسؤولون الروس أن الحدود "تحت السيطرة".

ومع ذلك، فإن المكاسب الدرامية الأخيرة التي حققها الجيش الأوكراني منحت بلا شك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي دفعة قوية، من المتوقع أن تسهم في تغيير مسار الصراع لصالح بلاده بشكل كبير.

وخلال حديثه في منتدى هذا الأسبوع لمناقشة الصراع، أعلن زيلينسكي أن استيلاء قواته على مساحات واسعة من الأراضي الروسية يأتي في إطار ما سماه "خطة النصر"، التي يعتزم عرضها على الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته المرتقبة إلى الولايات المتحدة الشهر المقبل. ومن المقرر أن يحضر الزعيم الأوكراني أيضا القمة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة خلال هذه الزيارة.

وصرح زيلينسكي خلال المنتدى بأن نجاح الخطة سيعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت إدارة بايدن ستمنح أوكرانيا "ما تتضمنه هذه الخطة"، وكذلك على مدى حرية أوكرانيا في تنفيذها. وأضاف: "قد يبدو الأمر طموحا للغاية بالنسبة للبعض، لكنها خطة مهمة بالنسبة لنا". وأشار زيلينسكي إلى أنه يعتزم عرض الخطة أيضا على المرشحين الرئاسيين الأميركيين كامالا هاريس ودونالد ترمب.

نجاح الخطة سيعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت إدارة بايدن ستمنح أوكرانيا "ما تتضمنه هذه الخطة"

وبينما زاد الاستيلاء على الأراضي الروسية من الضغوط على بوتين ليثبت للشعب الروسي أن موسكو ستتمكن في نهاية المطاف من تحقيق أهدافها الحربية، أكد الأوكرانيون أنهم لا ينوون الاحتفاظ بتلك الأراضي بشكل دائم، بخلاف الروس الذين يسعون إلى ضم مساحات كبيرة من شرق أوكرانيا واحتلالها بشكل دائم.
ووفقا للجنرال سيرسكي، فإن الهدف الرئيس للجيش الأوكراني ليس الاحتفاظ بالأراضي التي جرى الاستيلاء عليها، بل استخدامها كورقة ضغط في أي مفاوضات سلام مستقبلية لحل الصراع. وأوضح أن سببا آخر للهجوم الأوكراني هو تشتيت انتباه القوات الروسية عن هجماتها في شرق أوكرانيا، حيث أمضت القوات الروسية معظم الصيف في محاولات للسيطرة على مدينة بوكروفسك ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي تعد مركزا حيويا وتحتوي على محطة سكك حديدية رئيسة.

 أ ف ب
مبنى مدمر في مدينة ميرنوهراد جراء القصف الروسي في 26 أغسطس

وفي إشارة أخرى إلى أن زخم الصراع يتحول بشكل حاسم لصالح أوكرانيا، أعلن زيلينسكي خلال المنتدى أن كييف نجحت مؤخرا في إجراء أول اختبار لصاروخ باليستي محلي الصنع. وقدم تهانيه لصناعة الدفاع في بلاده على هذا الإنجاز، لكنه امتنع عن تقديم أي تفاصيل إضافية حول الصاروخ.
وعلى الرغم من أن أوكرانيا استخدمت بالفعل بعض الصواريخ الباليستية التي قدمتها الولايات المتحدة ضد روسيا، فإنها تسعى جاهدة لتطوير إنتاجها المحلي من المعدات العسكرية بهدف تقليل اعتمادها على المساعدات الغربية. كما كشف زيلينسكي أن طائرات مقاتلة أميركية الصنع من طراز "إف-16"، جرى التبرع بها حديثا، قد استخدمت في اعتراض بعض الصواريخ التي أطلقتها روسيا في الأيام الأخيرة.
وعلاوة على ذلك، فإن تمكن الأوكرانيين من تدمير عدد من الجسور الرئيسة التي تربط روسيا بالأراضي المحتلة في كورسك أعاق بشدة محاولات الروس لإرسال التعزيزات الضرورية لصد الهجمات الأوكرانية. ونتيجة لذلك، تمكنت القوات الأوكرانية من ترسيخ قيادتها العسكرية في المنطقة التي باتت تحت سيطرتها. وهذا التطور أجبر روسيا على اللجوء إلى تكثيف هجماتها بواسطة الطائرات المسيّرة والصواريخ على أهداف رئيسة داخل أوكرانيا، مما أدى إلى سقوط الكثير من الضحايا المدنيين وانقطاع التيار الكهربائي في مناطق مختلفة من البلاد، في محاولة للضغط على كييف لوقف عملياتها الهجومية.
وعلى الرغم من شراسة الهجمات الروسية، لا يبدو أن الزعيم الأوكراني يعتزم وقف الهجوم الأوكراني. بل على العكس، أشار زيلينسكي إلى أن رد موسكو العنيف يدل بوضوح على أن الكرملين لا يملك أي نية لإنهاء الحرب. وعلق زيلينسكي بسخرية قائلا: "من يرغب في إجراء [محادثات السلام] لا يشن 230 غارة جوية".
ومن المؤكد أن احتمال انخراط روسيا في أي محادثات سلام مستقبلية يبدو بعيدا جدا إذا استندنا إلى رد الكرملين على التوغلات الأوكرانية. إذ علق المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قائلا: "لقد فقد موضوع المفاوضات في الوقت الحالي أهميته إلى حد كبير".

ولا شك أن الهجوم الذي نفذته القوات الأوكرانية بمهارة فائقة ضد روسيا، والذي خُطط له على مدى عدة أشهر، قد فاجأ الكرملين تماما.
وكان أحد الألغاز الكبرى في الصراع خلال الأشهر الأخيرة هو مصير ألوية القتال الأوكرانية المدربة في الغرب، والتي جرى تجهيزها بأسلحة غربية متطورة لدعم كييف في تحقيق النصر في الحرب.
فبعد فشل الهجوم الأوكراني الذي طال انتظاره في الصيف الماضي لتحقيق اختراق في ساحة المعركة، كان يُعتقد على نطاق واسع أن الكثير من هذه الألوية القتالية القيّمة قد انجرت إلى حرب الاستنزاف الدموية التي استمرت على طول الحدود الأوكرانية مع روسيا طوال العام الماضي.
والآن يتضح أن كييف، بدلا من إهدار مواردها الثمينة في مواجهة ما يُعرف بهجمات "المفرمة" الروسية في شرق أوكرانيا، كانت تخطط لاستخدام تشكيلاتها القتالية الجديدة لشن هجوم مفاجئ على نقطة ضعف معروفة في الدفاعات الروسية في منطقة كورسك. وفي هذه المنطقة، كان الجيش الروسي يعتمد بشكل كبير على مجندين غير مدربين وذوي خبرة محدودة للدفاع عن مواقعهم.
وكان التخطيط لأهم هجوم لأوكرانيا على الأراضي الروسية الأم من الدرجة الأولى بلا شك، حيث جرى تنفيذ العملية تحت إجراءات أمنية صارمة لضمان سرية العمليات.

تمكن الأوكرانيون من تدمير عدد من الجسور الرئيسة التي تربط روسيا بالأراضي المحتلة في كورسك مما أعاق بشدة محاولات الروس إرسال التعزيزات الضرورية لصد الهجمات

ووفقا لتحليل أجرته أجهزة استخبارات غربية، فإن مقاطع الفيديو التي جرى تصويرها للعمليات البرية الأوكرانية، بالإضافة إلى صور الأقمار الصناعية، قد استخدمت ببراعة لإخفاء النوايا الحقيقية للتقدم الأوكراني. هذه التحركات خدعت الروس، حيث أعطتهم انطباعا بأن تحركات القوات لم تكن سوى تدريبات لتعزيز الدفاعات.
وكما قالت ناتيا سيسكوريا، وهي زميلة مشاركة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية في لندن، لشبكة "سي إن إن": "لقد أثبتت [أوكرانيا] أنها قادرة على تنفيذ مثل هذه العملية السرية والمهمة بنجاح، وتمكنت من اختراق الأراضي الروسية، متجاوزة ما كان يُعتبر خطا أحمر. لا تزال أوكرانيا ملتزمة بشدة بالقتال من أجل بلادها، ولا يوجد شيء يُدعى إرهاق الحرب بالنسبة لها. إنها مستعدة لاتخاذ هذه التدابير القصوى من أجل الدفاع عن بلادها".
إن قدرة الأوكرانيين على التفوق على خصومهم الروس، إلى جانب استيلائهم على مساحات من الأراضي الروسية، تمثل تحديا هائلا للرئيس بوتين، الذي باتت توقعاته بأن ينتهي الصراع في أوكرانيا في غضون أيام قليلة تبدو قصيرة النظر إلى حد كبير.

وبالتأكيد، لم تغب حقيقة أن موسكو، بدلا من القتال على الأراضي الأوكرانية، تجد نفسها الآن مضطرة للدفاع عن أراضيها، عن فيالق المدونين المؤيدين لبوتين، الذين أبدوا في السابق دعمهم الكامل للغزو الروسي.

حيث وصف أحد المدونين العسكريين الروس الوضع بأنه "جحيم على الأرض"، بينما أعربت مدونة أخرى مؤيدة للحرب، أنستازيا كاشيفاروفا، عن استيائها على "تلغرام" قائلة: "كنا نعلم أن القوات المسلحة الأوكرانية ستتجه نحو منطقة كورسك. كنا نعلم أنهم يجمعون القوات. كنا نعلم كل شيء كما هو الحال دائما، أبلغ الرجال من الميدان عن ذلك، لكن كبار المسؤولين لم يفعلوا شيئا".

وقال مدون آخر مؤيد لبوتين، يُدعى رافريبا، إن هناك "تجاهلا تاما لحالة الحرب في موسكو"، معبرا عن استيائه بقوله: "يبدو أن وزير الدفاع الجديد يفضل حساب ما سرقه الأجداد، بدلا من الضغط على الجنرالات الذين لا يتحركون إلا عندما يكونون تحت تهديد السوط والفأس".

وفي حين أنه حتى أشد المؤيدين الروس لحرب بلادهم في أوكرانيا باتوا يشككون في قدرة قواتهم المسلحة على تحقيق النصر، قد يجد بوتين نفسه نادما على اليوم الذي قرر فيه شن هذا الغزو ضد جيرانه الأوكرانيين.

font change

مقالات ذات صلة