لا يزال هناك العديد من الكتب التي لم تُنشر بعد للشاعر اليمني عبدالله البردوني (1929- 1999) رغم مرور ربع قرن على رحيله. فهناك رواية كتبها البردوني، وصارت في متناول قريبه محمد عبده البردوني الذي يعتزم نشرها قريبا، كما ذكر. بالإضافة إلى سلسلة من المقالات والسير التي كان ينشرها في شكل مسابقات. أما سيرته الذاتية التي كان ينشرها في صحيفة "26 سبتمبر"، فقد جمعها محبو الشاعر الراحل، ومنهم حيدر غيلان ومحمد القعود، ونشروها أخيرا في عدة طبعات وصيغ مختلفة، بعضها حمل عنوان "مذكرات وذكريات". هذه السيرة أثارت الكثير من الجدال أثناء نشرها صحافيا، لما تضمنته من أحداث ومواقف جريئة لشخصيات معروفة، سواء في ما يتعلق بحياتهم الشخصية أو بالقضايا العامة.
كان البردوني دائم التبرير في مقالاته اللاحقة لما ينشره، ولكن في معظم الأحيان كانت إدارة الصحيفة تطلب منه بعض التعديلات. وقد لاحظت ذلك مرة أثناء زيارتي له. ولا يُعرف حتى الآن هل المذكرات المنشورة في هذا الكتاب هي نسخة من المقالات المنشورة في الصحيفة أم تلك التي أملاها البردوني على كُتّابه في صيغتها الأولى. لم يكن البردوني يعترض على التعديلات المطلوبة، كما لاحظت، إذ كانت تقتصر على إخفاء اسماء العائلات أو اعتماد التلميح بدلا من التصريح. جاءت هذه الاعتراضات بعدما ذكر في أوائل حلقات المذكرات اسم شاعر ووزير يمني سابق، وأشار إلى أنه كان عنينا، وذلك في سياق اقتضى هذا القول، كما أشار إلى بعض السلوكيات لإحدى جاراته. وقد رد البردوني لاحقا على هذه الانتقادات، قائلا إن ذكره لهذه المرأة جاء من موقع ودّي "ولا يمكن السكوت عن عمل إنساني من جارة أو جار". أما ما ذكره عن صديقه الشاعر، فقد أفاض في تبريره، مشيرا إلى أنه من أحاديث الأعراس اليومية، وأورد شواهد كثيرة من التراث العربي تكشف عن حالات مشابهة لرجال أصيبوا بالعجز الجنسي. وأوضح أن هذا العجز لم يكن دائما عند الشخص الذي ذكر أنه عانى منه في ليلة دخلته فقط، إذ عُرف عنه في ما بعد أنه "وافر الذكورة، مزواج مطلاق منجب". كما أشار إلى عادة التحقق من علامة البكارة في ليلة العرس، التي كان الجميع يعرفون عنها.
لا يتحرّج البردوني من البوح بأحداث وذكريات قد يظنها البعض عيبا أو لا يجوز قولها من شاعر احتل المكانة الأهم في الأدب اليمني
ومن الأمور التي أثارت غضب البعض، تذكير البردوني بشعراء كانوا يمتدحون الإمام أحمد في ما كان يُعرف بـ"عيد الجلوس"، وهو الأمر الذي حاول البعض التنكر له، بينما اعتبر آخرون هذه النصوص من "الوثنيات" كما وصفت قصائد الشاعر محمد محمود الزبيري.
كان البردوني كثير القراءة والاطلاع في الآداب العربية القديمة والحديثة، ولذا نجده يشير إلى كتب السير الذاتية، منوها إلى ما هو جريء منها، كسير جان جاك روسو ولويس عوض ومحمد شكري. ولوحظ أن البردوني يتبع هذا المنحى في الكتابة، إذ لا يتحرّج من البوح بأحداث وذكريات قد يظنها البعض عيبا أو لا يجوز قولها من شاعر احتل المكانة الأهم في الأدب اليمني خلال القرن العشرين. ومن ذلك، ما أشار إليه في أحاديث كثيرة، وهو أنه كان يبيت جائعا أحيانا حين كان طفلا، وأنه في بعض الأيام كان يتسلّق، وهو الأعمى، سور بعض المزارع الخاصة ليأخذ منها بعض الخضر ليسد بها رمقه، مما كان يعرضه أحيانا للضرب والإهانة. يتذكر البردوني تفاصيل دقيقة وأرقاما، ومنها الأصداء التي كان يسمعها بعد قصائده المثيرة للجدال. وكذلك عمله في إنشاء المناهج التعليمية في وزارة المعارف، وكيف أنشئت إدارة دينية للمناهج في رئاسة عبد المجيد الزنداني، والاعتراض على عمل المرأة، وخصوصا في الإذاعة. وتحدث عن عمله في إذاعة صنعاء، حيث كانوا يخافون من توليه إدارتها، في حين أنه، حسب ما قال، لا يُحسن إدارة بيته. كما يكشف عن مواقف اجتماعية مبكرة، في نهاية خمسينات القرن الماضي، لبعض الكتاب، مثل محاكمة أحمد دهمش على مقالاته التي كانت تطالب بمنع تعدد الزوجات. وكيف بقي البردوني تحت الإقامة الجبرية عام 1954. ومن الحوادث اللافتة، صراع الهاشمية والقحطانية آنذاك من خلال "مراشقات كلامية، وكلّ يدعي بأنه الوطني الأصيل وأن غيره دخيل"، مع تزاحمهم على ركبتي الإمام لتقبيلهما. وقد نوه البردوني إلى أن الشعراء المجيدين لم يتعاطوا "شعر العصبية التافهة"، أما في القرن العشرين "فقد لاح كلّ الناس يمنيين، بعد أن مر أحد عشر قرنا من دولة الهادي إلى الآن".
في شتاء 1953، شارك البردوني ضمن وفد يمني في إحياء أربعينية الملك عبدالعزيز آل سعود، حيث أبحروا من الحديدة إلى جدة واستقبلهم الملك سعود. وفي الحفل، ألقى قصيدة اعتمد فيها "أفكار فلسفة الموت والحياة" كما قال. وأوضح أنه تعرّف مع الوفد الى معالم المملكة وأدوا مناسك الحج، وأُعطي كلّ واحد من الوفد ألف ريال. وبعدها عاد إلى اليمن واقترن بزوجته الأولى.
يتنقل بين الأزمنة والحكايات، ولا يكتفي بتدوين الطرفة أو النادرة، وإنما يعقب عليها ويستذكر مثيلاتها
يتحدث الشاعر، الذي كان معروفا بمعارضته نظام الإمامة، عن الاتهامات التي وُجهت إليه بسبب صمته في الستينات، ومنها أنه تلقى رشوة مقابل صمته. وقد ردّ على ذلك بالقول إن سوء أحواله وفقر كوخه في "باب السبح" في صنعاء القديمة كانا يقدمان أصدق شهادة على فقره.
ولا يغفل البردوني التعليق على الكثير من الأحداث المصيرية التي عاشها العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبعضها مواضيع لا علاقة لها بمذكراته الشخصية أو بزمنه. ويتحدث عن علاقاته بالنساء وأسفاره ولقاءاته، ويورد جانبا من علاقته بالناشرين. ومن أطرف ما ذكره، أنه حين ترجمت "دار التقدم" في موسكو ديوانه "مدينة الغد"، قيل له إنه سيتقاضى مكافأة على عدد الكلمات، في حضور غائب طعمة فرمان، فتساءل لماذا لا يحسبون حروف الجر والاستفهامات والتعجبات وهي أجزاء من الكلمات. وما بدا من الحديث أن البردوني استهوى بقاء الحوار مع مديرة الدار (تمارا) أكثر من رغبته في المال.
هذا المنحى الطرائفي في كتابة البردوني نجده أيضا في كتاب صدر أخيرا بعنوان "مُستطرف معاصر"، يضم مقالات كان ينشرها تحت هذا العنوان في صحيفة "الوحدة" اليمنية. وفيه نجد الكثير من طرائف الأدباء، فنقرأ حكايات عن مي زيادة والعقاد وتوفيق الحكيم والرصافي والطيب صالح وبدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة ونازك الملائكة وفدوى طوقان وعمر أبي ريشة وغيرهم. وذلك من خلال أسلوبه الاستطرادي المعتاد، الذي يتنقل بين الأزمنة والحكايات، ولا يكتفي بتدوين الطرفة أو النادرة، وإنما يعقب عليها ويستذكر مثيلاتها.