في روايته "مستر فيرتيغو"... بول أوستر الساحر المخادع

رحلة مفعمة بالرموز التي يصعب القبض على كنهها

AFP
AFP
الكاتب الأميركي بول أوستر

في روايته "مستر فيرتيغو"... بول أوستر الساحر المخادع

من أجمل المنامات تلك التي تكون فيها خفيفا بلا وزن، فتفارق قدماك الأرض وتروح ترتفع في الهواء. بطل رواية بول أوستر "مستر فيرتيغو" (نُشِرت بالإنكليزية عام 1994 وصدرت حديثا عن "دار الساقي" بترجمة مالك سلمان)، يحقق هذا الحلم في عالم الواقع. إنه صبي يتيم ومشاكس في التاسعة من عمره يدعى وولت، يتسول المال والطعام في شوارع مدينة سانت لويس. في إحدى ليالي عام 1927، يقترب منه رجل يرتدي بدلة سوداء ويقول له: "أنت لست أفضل من حيوان. وإن بقيت حيث أنت، فسوف تموت قبل رحيل الشتاء. أما إن جئت معي، فسوف أعلمك الطيران". لا يصدق وولت ذلك، ولكن بما أنه ليس لديه ما يخسره، يوافق على اقتراح الرجل الغامض – المعلم ياهودي – ويصعد معه إلى القطار.

المقصود بالطيران هنا، ليس قيادة طائرة، ولا خدعة يمكن لساحر تأديتها على خشبة مسرح، وإنما الارتفاع عن الأرض والتحليق حقا، وهذا ما سيتعلمه وولت بالفعل. لكن ثمة سؤال لا ينفك يلح على ذهن القارئ: إلام يرمز الطيران في هذه الحكاية؟

قد تكون الإجابة عن هذا السؤال عسيرة، بيد أنها ليست شرطا للاستمتاع بهذه الرواية التي تتكئ على مستويين اثنين: أولهما الحكاية المسرودة سردا لاهثا ومشوقا، وثانيهما المعنى الرمزي الذي يتخطى الحكاية ولا ينفك يُشعِرُك بحضوره الطاغي أثناء القراءة، ومع ذلك فإنه يتلاشى حالما تحاول القبض عليه.

حكايةٌ خرافية للكبار يلعب فيها الطيرانُ دور السحر والجن، وروايةُ مغامرات تتوالى فيها التحديات والأخطار

حكاية خرافية للكبار

تكتفي الحكاية بذاتها ويمكن تاليا قراءتها والانغماس في أحداثها الكثيرة من دون السعي إلى فهم بُعدها الرمزي. الرواية في آن واحد حكايةٌ خرافية للكبار يلعب فيها الطيرانُ دور السحر والجن، وروايةُ مغامرات تتوالى فيها التحديات والأخطار التي تواجه البطل، فتأسر القارئ من بدايتها حتى نهايتها.

بعد نزولهما من القطار، يتجه وولت والمعلم ياهودي إلى مزرعة الأخير في سهول كنساس النائية، حيث سيعيشان لنحو ثلاث سنوات برفقة شخصين آخرين: إيسوب المراهق الأسود والأحدب الذي يعمل ياهودي على تعليمه وتثقيفه بهدف إرساله إلى الجامعة ليصبح "قائدا لعرقه، ومثالا ساطعا لجميع السود المضطهدين في هذا البلد العنيف والمنافق"، وماما سيو الخمسينية المتحدرة من قبيلة أوغلالا وابنة شقيق سيتينغ بول (أي الثور الجالس)، المحارب والزعيم القبلي الشهير. هكذا يجد وولت نفسه في منزلٍ واحدٍ مع يهودي وفتى أسود وهندية، مما يُثير امتعاضه في البداية كونه صبيا أبيض نشأ في بيئة أميركا العنصرية في عشرينات القرن الماضي. لكنه سرعان ما يعتاد العيش مع من يسميهم بـ"منبوذي العالم".

shutterstock

أما تعلم الطيران، فسيكون شاقا ومؤلما إلى أقصى الحدود. يُخضع المعلم ياهودي تلميذه لاختبارات كثيرة تهدف مبدئيا، إن اجتازها كلها، إلى جعله قادرا على التحليق، إلا أن علاقتها بالطيران تبقى غير مفهومة لوولت وللقارئ على حد سواء. والاختبارات هذه كل واحد منها أفظع من سابقه وأغرب، ومن بينها: دفن وولت حيا مع أنبوب طويل يضعه في فمه ليتنفس من خلاله طوال اليوم الذي سيمضيه تحت التراب، جلده بالسوط، طليُ جسده بالعسل وإرغامه على الوقوف عاريا تحت الشمس اللاهبة فيما مئات الذبابات والدبابير تحوم حوله، إجباره على شرب بول البقر وأكل براز الجياد، جعله يقطع بسكينٍ المفصل الأعلى لخنصره، عصْبُ عينيه لأسبوع، أمرُه بالوقوف على ساق واحدة طوال ليلة كاملة... إلخ.

يقول وولت عن معلمه: "لم يكن عليه أن يهددني (...). كنت أنفذ أوامره بنوع من الطاعة العمياء ودون أن أبحث عن الأهداف التي يرمي إليها. طلب مني أن أقفز فقفزت. طلب مني التوقف عن التنفس فتوقفت عن التنفس. هذا هو الرجل الذي وعدني بأن يجعلني أطير، ومع أنني لم أصدقه قط فقد تركته يفعل بي ما يشاء كأنني أصدقه".

تتسارع أحداث الرواية أكثر فأكثر، فتُدخِلنا إلى عالم العصابات والجريمة المنظمة وإلى عوالم أخرى

الطيران

يبقى وولت غير مقتنعٍ بجدوى هذا التدريب إلى أن يحدث أمرٌ غير متوقع، ويبدو أنه لا علاقة له البتة بأي من الاختبارات التي خضع لها. يستيقظ باكرا ذات صباح فلا يعثر على المعلم ياهودي، لا في المنزل ولا في المزرعة – يجد فقط إيسوب وماما سيو اللذين لا يزالان نائمين. يظن أن ياهودي قد غادر وتركهم جميعا، وأنه لن يعود أبدا، فتجتاحه مشاعر حادة ومتضاربة من النقمة والسخط إلى الحزن واليأس، فيرتمي أرضا ويروح يبكي. لكن ما هي إلا لحظات حتى يتملكه الهدوء والسكينة، ثم يشعر بأن جسده بدأ يرتفع عن الأرض. لا يدري وولت كم من الوقت بقي معلقا في الهواء قبل أن ينخفض ببطء ليلامس الأرض من جديد، ثم يغفو، وحين يصحو، يجد أن المعلم ياهودي قد عاد.

shutterstock

منذ تلك الحادثة تنتهي الاختبارات التي يخضع لها وولت، فيبدأ بالتدرب على تطوير قدرته على الطيران: الصعود إلى ارتفاعات أعلى، التحليق لفترات أطول، التنقل في الهواء... ومنذ تلك الحادثة أيضا، تأخذ أحداث الرواية في التسارع على نحو محموم. يهاجم عناصر من منظمة "كو كلوكس كلان" العنصرية واليمينة المتطرفة المزرعة ويحرقونها. يقوم ياهودي بتنظيم عروض يستعرض فيها وولت قدراته أمام الجماهير. تتعاظم شهرة وولت فيما يجول ومعلمه على بلدات ومدن أميركية كثيرة. تدر العروض عليهما المال، فيُختطف وولت ويُطالب بفدية للإفراج عنه. ثم يضطر وولت إلى اعتزال الطيران نهائيا حين يصل إلى سن البلوغ، إذ يبدأ صداعٌ حاد يصيبه بعد كل مرة يُحلق فيها. وتتسارع أحداث الرواية أكثر فأكثر، فتُدخِلنا إلى عالم العصابات والجريمة المنظمة وإلى عوالم أخرى... حتى يبلغ وولت سن الشيخوخة، فيشرع في كتابة مذكراته التي يروي فيها كل ما سبق.

حكاية رمزية لا ترمز إلى شيء

لا بد لهذه القصة أن تعني شيئا يتخطى الأحداث المروية: هذا ما لا ينفك يتوارد إلى الذهن أثناء قراءة "مستر فيرتيغو". أما سبب إلحاح هذه الفكرة فهو إحساس ضبابي يصعب تحديد مصدره في النص، إحساس بأن الأحداث المروية ليست سوى ظلال لوقائع أو حقائق أسمى، يمكن الحدس بها على نحو غائم، لكن لا يمكن تسميتها أو تعيينها قط. هذا ما يدفع بالقارئ إلى نوع من الجنون التأويلي، إذا جاز التعبير، فيجد نفسه يحاول فك رموز النص وتأويل عناصره، لكن عبثا. فمن المستحيل، مثلا، عدم التساؤل عن معنى الطيران ومحاولة تأويله، إلا أن جميع الفرضيات التي يمكن تخيلها تتبدى، في نهاية المطاف، قاصرة أو غير مقنعة. فهل الطيرانُ كنايةٌ عن عالم الطفولة السحري الذي يأخذ في التبدد حين يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ ويصبح مراهقا؟ أم هل هو كنايةٌ عن الكتابة والإبداع كما تحمل بعض مقاطع الرواية على الظن؟ إنه هذا وذاك في الآن عينه، ولا هذا ولا ذاك. إنه كل شيء وأي شيء ولا شيء.

هذا ما ينبطق أيضا على عناصر كثيرة أخرى لا يمكن سوى التساؤل عن دلالاتها أو رمزيتها، مثل أن يعيش معا، في مزرعة نائية، رجل يهودي وصبي أسود وامرأة هندية وطفل يتيم، أو الاختبارات العجيبة التي يخضع لها وولت، أو الصداع الذي يرغمه على اعتزال الطيران. حتى القصة برمتها، من أولها إلى نهايتها، تحث القارئ على محاولة تأويلها، لكن بلا جدوى.

هذا الإحساس بأن ثمة عالما أخرويا يمكن بلوغه من طريق تأويل الرموز إنما هو أحد مصادر المتعة التي تبثها كتابات أوستر

الأمر عينه ينطبق أيضا، لكن بدرجات متفاوتة، على الكثير من أعمال بول أوستر (الذي توفي في أبريل/ نيسان من هذا العام). في الفقرة الأولى من روايته "مدينة الزجاج" (الجزء الأول من "ثلاثية نيويورك")، يكتب أوستر: "إن لب الموضوع هو القصة بحد ذاتها، وليس للقصة أن تقول إذا كانت تعني شيئا أم لا". يصح هذا القول في معظم الروايات والقصص، لكنه لا يصح بالمرة في روايات أوستر. فهي كأنها تخاطب القارئ مباشرة لتؤكد له أنها تعني شيئا يتجاوز القصة المسرودة، مما يضفي عليها طابعا ميتافيزيقيا يلعب دورا كبيرا في جذب القارئ وإثارة اهتمامه، لكنه طابع ميتافيزيقي متوهم. أي أن محاولة تحديد ماهيته، ولو بشكل تقريبي، تبوء دوما بالفشل.

GettyImages
الكاتب الأميركي بول أوستر

لعل هذا هو سحر كتابة أوستر ومكمن ضعفها في آن واحد. فبالإضافة إلى سرده الآسر، يزرع رموزا ملغزة كثيرة في جميع أنحاء حكاياته، مما يوهِم القارئ بأن أحداث القصة تجري هنا، في هذا العالم، وتجري أيضا هناك، في مكان آخر، في عالم أخروي تسطع فيه معاني تلك الرموز. وهذا الإحساس بأن ثمة عالما أخرويا يمكن بلوغه من طريق تأويل الرموز إنما هو أحد مصادر المتعة التي تبثها كتابات أوستر في القارئ.

في فن بول أوستر الروائي شيءٌ من السحر، ذاك أنه مثلما يؤدي ساحرٌ خدعة على خشبة مسرح، يجعلك تعتقد أنك ترى شيئا لا وجود له قط.          

font change

مقالات ذات صلة