لا يستيقظ العالِم في الصباح ليقرر نظرية مأخوذة من لا شيء. بل تتعدد منابع النظريات العلمية وتتنوع دوافعها، فقد يكتبها العالِم بغرض هدم نظريات علمية سابقة، كما فعل كوبرنيكوس وغاليلي وكبلر ونيوتن عندما تصدوا لهدم فيزياء أرسطو، وقد تأتي النظريات لإكمال بعضها وتصحيحها وردم فجوات القصور، كما حدث مع هؤلاء الفرسان الأربعة. وقد تأتي النظرية محاولة لجمع شتات النظريات السابقة كما حدث مع نظرية ستيفن هوكنغ في محاولته الرائدة "نظرية تفسر كل شيء". وقد يخرج فيلسوف علم مثل توماس كون، ليقول إن كل الثورات العلمية ليست بأولى بالحق من بعضها. ليقرر بذلك لا تراكم العلم. تلك التهمة التي كانت توجه إلى الفلسفة فقط.
هناك سبب آخر لولادة تلك النظريات، ينبغي أن نسلط عليه بعض الضوء، ألا وهو أن العلماء – بعد انفصال العلم عن الفلسفة – صاروا يعودون في أحيان ليست بالقليلة إلى الفلاسفة ويقومون باستكناه واختبار نظرياتهم الفلسفية ليروا مدى إمكان تحولها إلى نظريات علمية.
في خمسينات القرن العشرين، بدأ مع الفيزيائي الأميركي هيو ايفريت الحديث عن نظرية الأكوان الموازية The Multiverse. أكوان كثيرة تشبه كوننا هذا، لكنها لا تحصى كثرة. هذه النظرية نشأت من ملاحظة الكون، كما يقول معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وليست مجرد ضرب من الخيال، أو مادة كتابية لأفلام الخيال العلمي. فعندما نبحث في تاريخ الفلسفة نجد أن فكرة الأكوان الموازية موجودةمنذ 2500 سنة ولم تغب عن عباقرة الفلاسفة من اليونانيين الأوائل ولم تغب عن البوذيين أيضا.
خلاصة القول إن العلماء لم يكونوا يوما في معزل عن الفلسفة، حتى أولئك الذين دعوا إلى موتها
وجدنا من خلال البحث أن أقدم الإشارات إلى تعدد الأكوان متضمن في مدرستين فكريتين يونانيتين قديمتين، هما المدرسة الذرية والمدرسة الرواقية. فقد زعم فلاسفة المدرسة الذرية، الذين ترجع فلسفتهم إلى القرن الخامس قبل الميلاد، أن النظام والجمال اللذين يتمتع بهما عالمنا كانا نتاجا عرضيا لاصطدام الذرات في فراغ لا متناه وأن تلك الاصطدامات الذرية تؤدي إلى نشوء عدد لا حصر له من العوالم الأخرى الموازية الأقل كمالا من عالمنا. في طبيعة الحال، لم يوافق كل العلماء على جزئية العالم الأكمل هذه، لكنهم يوافقون على أصل الفكرة.
ورأى الرواقيون أن الكون مشبع بروح أبدية لا تقهر، هي الإله بالنسبة لهم. ولكن كيف يفسرون التغيير والدمار الظاهرين اللذين نراهما؟ يفسرونهما كالتالي: إن الكون يعيد تدوير نفسه من جديد. ووفقا للفيلسوف الرواقي كريسيبوس من القرن الثالث قبل الميلاد، فإن العالم سوف يتدهور في نهاية المطاف إلى نوع من العدم الأثيري، ولكنه سوف يتجدد مرة أخرى إلى شكل مادي، فقط لكي تتكرر الدورة إلى ما لا نهاية. ورغم وجود اختلافات حادة بين هاتين الفلسفتين اليونانيتين، فإن أفكارهما الخاصة بالعوالم الدورية والمتوازية ليست بالضرورة متنافية. ثمة اتفاق على الأصل.
وفي جزء آخر من العالم القديم، في نحو عام 100 بعد الميلاد، سعى الفلاسفة البوذيون الأوائل إلى وصف علم الكونيات السببي، فخلصوا إلى أن عالمنا هو واحدٌ من العديد من العوالم المتوازية، وكل منها يخضع لدورة لا متناهية من الخلق والدمار. مرة أخرى هناك اتفاق على الأصل واختلاف في التفاصيل. في مقابل هؤلاء، وجدنا أرسطو يذكر نظرية الأكوان المتوازية ويرفضها في كتابه "عن السماوات" لأن الفضاء محدود من وجهة نظره.
خلاصة القول إن العلماء لم يكونوا يوما في معزل عن الفلسفة، حتى أولئك الذين دعوا إلى موتها، كانوا يتأثرون بها دون أن يعلموا. العلم نفسه مختلط بالفلسفة ولا يمكن أن يتخلى عن بُعده الميتافيزيقي، ولم يتخل قط عن الخيال ودوره الحيوي في العلم وغيره. ولطالما عاد الفيزيائيون إلى النظرية الفلسفية في محاولة لجعلها نظرية علمية خاضعة للتجربة، يعودون إليها في محاولات شتى لإثبات صدقها أو بطلانها.