تجار الحرب... هكذا ظهر "الأثرياء الجدد" شمال شرقي سورياhttps://www.majalla.com/node/322019/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%B8%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AB%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%AF-%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B4%D8%B1%D9%82%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
كل شيء سينتهي في المحصلة لأن يكون في "خزينة أبو حلو". هذه هي العبارة الأكثر رواجا بين السكان المحليين في مدينة القامشلي، أقصى شمال شرقي سوريا، للتعبير عن الأحوال وشكل الحياة الاقتصادية في المدينة، وكامل المنطقة المحيطة بها.
فـ"أبو حلو"، الذي هو رجل أعمال وتاجر ومقاول ومهرب ووسيط مالي/سياسي، يكاد أن يملك كل شيء في هذه المدينة. حدث ذلك، بعد أن برز فجأة خلال السنوات العشر الأخيرة، التي اندلعت فيها الحرب شمال شرقي سوريا. هذه المنطقة التي صارت تُدار من قِبل إدارة ذاتية خاصة بها، محمية من قِبل "قوات سوريا الديمقراطية"، الحليف السياسي والعسكري الميداني للولايات المتحدة الأميركية وقوى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. في منطقة تُقدر بثلث مساحة سوريا، ويسكنها حوالي 5 ملايين نسمة، يقطنها خليط قومي عربي وكردي وسرياني وأرمني.
"أبو حلو" الذي كان حتى قبل سنوات قليلة يملك شركة صغيرة للتخليص الجمركي، إلى جانب بعض أعمال التهريب في المثلث الحدودي مع تركيا والعراق، تذهب التقديرات غير الرسمية إلى القول إن ثروته راهنا تزيد على عدة مئات من ملايين الدولارات. فهو يملك شبكة أخطبوطية من الشركات ووحدات الأعمال والعقارات والأراضي الزراعية والأرصدة المالية، المنتشرة في كافة مناطق سوريا، لكن المتمركزة والعاملة بالأساس شمال شرقي سوريا، وتربط هذه المنطقة مع باقي مناطق سوريا وحتى دول الجوار.
طوال عقود كثيرة سبقت الحرب، كان المهنيون ومُلاك الأراضي، يسيطران على المجال الاقتصادي، ويغذيان المناخ الاجتماعي بقيمهما وثقافتهما وخياراتهما الحياتية
يمثل "أبو حلو" طبقة واسعة من "الأثرياء الجدد"، وإن كان أكثرهم بروزا وشهرة، من الذين صعدوا خلال العقد الماضي. هؤلاء الذين كانوا وما يزالون يشيدون أعمالهم ويراكمون ثرواتهم بناء على شبكة العلاقات التي صنعوها وينشطون عبرها مع أقطاب الصراع الأمني والسياسي في تلك المنطقة الجغرافية: قوات الحكومة السورية والميليشيات الإيرانية المسيطرة على مناطق جنوب نهر الفرات ونظيرتها السورية المعارضة شمال غربي سوريا و"قوات سوريا الديمقراطية" والإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا، وإلى جانبها كلها، علاقات مع تركيا وإقليم كردستان والحكومة المركزية العراقية. فمختلف هذه الأطراف، وإن كانت متصارعة فيما بينها سياسيا وعسكريا، لكنها في المقابل ما تزال تحتفظ بنشاط اقتصادي تبادلي حيوي، وإن غير رسمي و"شرعي" معترف به ومُعلن عنه من قبلها كلها.
المراقبون يعتبرون أن هذه الطبقة من "الأثرياء الجدد" في هذه المنطقة، من الذين صعدوا خلال السنوات الماضية، إنما كانوا النتيجة الحتمية لنمو وتضخم "اقتصاد الظل"، الذي صار خلال السنوات الماضية الوجه المالي للحرب نفسها. فهؤلاء الأثرياء، الذين لا يتجاوزون عدة عشرات من الأشخاص والعوائل الاقتصادية، يمتلكون ويتحكمون في كل أدوات الفعل ومصادر النشاط والموارد الاقتصادية في هذه المنطقة. الأمر الذي منحهم حتى القدرة على الصعود إلى أعلى السلم الاجتماعي.
لكن حدوث هذا الأمر، جرى على حساب أمرين رئيسين: زيادة مستويات الفقر بين الطبقات الاجتماعية التي كانت تشكل الطبقة الوسطى في السنوات السابقة للحرب، خصوصا من موظفي القطاع العام والتجار والمهنيين، الذين خرجوا تماما من اللعبة الاقتصادية. كذلك تمت على حساب طبقة العائلات الإقطاعية التقليدية التي كانت في تلك المنطقة الزراعية، التي وإن كان قد تراجع نفوذها وثرواتها مما كانت عليه تاريخيا، إلا أنها كانت حتى السنوات السابقة للحرب، ما تزال محافظة على موقعها الاجتماعي والرمزي والاقتصادي في أعلى الهرم الاجتماعي. فطوال عقود كثيرة سبقت الحرب، كانت هاتان الطبقتان- المهنيون ومُلاك الأراضي- تسيطران على المجال الاقتصادي، وتغذيان المناخ الاجتماعي بقيمهما وثقافتهما وخياراتهما الحياتية.
إن السهوب الوسيعة شمال شرقي سوريا كانت تُعتبر من أخصب مناطق البلاد، مصنفة كسلة غذائية ترفد كامل البلاد بالمنتجات الزراعية الاستراتيجية، مثل القمح والشعير والقطن والبقوليات. فقرابة مليوني هكتار من الأراضي الزراعية في تلك المنطقة، التي كانت تسمى كاليفورنيا الشرق، كانت مملوكة في أغلبيتها لعدة مئات من العائلات الزراعية المالكة، الذين كانوا منذ أربعينات القرن المنصرم يراكمون ثروات مالية كبيرة من مردود المواسم الزراعية. تلك الثروات المتراكمة التي سمحت لأبناء هذه الطبقة أن يمتلكوا الكثير من العقارات السكنية والتجارية والاقتصادية في مختلف مدن المنطقة، إلى جانب صعود اجتماعي وثقافي وتعليمي لأبناء عائلاتهم، بحيث صاروا في أعلى التراتبية المجتمعية.
بعد مئات المعارك، خاضت المنطقة حربين مباشرتين مع الجيش التركي، في منطقتي عفرين عام 2018 ورأس العين عام 2019. كانت شراستها لا تقارن بما سبقها من حروب قط
إلى جانب هؤلاء، فإن المهنيين في تلك المنطقة، تنامى دورهم اعتبارا من أوائل التسعينات. فالأطباء والصناعيون والتجار والموظفون النافذون في القطاع العام، كانوا القطب الموازي لطبقة المزارعين خلال العقود الأخيرة، وإن كانوا أقل محافظة وتقليدية منهم، لكنهم كانوا على وفرة مالية واستقرار اجتماعي، سمحت لهم بأن يكونوا أبرز الحاضرين في المجال العام.
وطوال عدة عقود تحكمت هاتان الطبقتان في شكل الحياة العامة في هذه المنطقة، بفضل ما كانتا تملكانه من موارد مالية. فحولتا هذه المنطقة من بيئة ريفية تقليدية، لأن تكون عمرانا واسعا من المُدن والبلدات، التي أفرزت طبقات اجتماعية محدثة، أفضل تعليما وأكثر انفتاحا في علاقاتها الاجتماعية. لكن قبل كل ذلك، كانت هاتان الطبقتان تحددان خطوط وشكل العلاقة داخل المجتمع، لأنهما كانتا الأكثر "قوة" وحضورا وقدرة على التحكم في الفضاء العام.
كيف تبدل كل ذلك خلال عقد؟
اعتبارا من صيف عام 2012، وبعد زيادة زخم الثورة السورية في مختلف مناطق البلاد، خرجت مناطق شمال شرقي سوريا من نطاق سيطرة قوات الحكومة السورية، وصارت "قوات سوريا الديمقراطية" تسيطر عليها، حيث كانت وقتئذ تسمى "وحدات حماية الشعب الكردية"، والتي أعلنت عن تأسيس الإدارة الذاتية لشمال شرقي البلاد بعد شهور قليلة من ذلك، وصارت تتلقى دعما عسكريا وسياسيا أميركيا وأوروبيا بعد قرابة السنتين.
كان ذلك التبدل يعني تفجر ثلاث ديناميكيات جديدة في الحياة العامة لتلك المنطقة، هي الحرب وغياب الشرعية والحصار. فبعد استقرار مديد، طال قرنا كاملا، دخلت منطقة شمال شرقي سوريا سلسلة من الحروب المتتالية منذ أن انسحبت منها قوات الحكومة السورية. وبدأت الحروب منذ مواجهة "قوات سوريا الديمقراطية" لتنظيمات "المعارضة الإسلامية"، مثل "غرباء الشام" و"جبهة النصرة" و"أحرار الشرقية"، لتنتقل إلى حرب مفتوحة ضد تنظيم "داعش"، لخمس سنوات متتالية، وعلى شريط جبهة ومساحة واسعة للغاية، تمتد من منطقة منبج غربا وحتى الحدود العراقية شرقا.
وبعد مئات المعارك تلك، فإن تلك المنطقة خاضت حربين مباشرتين مع الجيش التركي، في منطقتي عفرين عام 2018 ورأس العين عام 2019. كانت شراستها لا تقارن بما سبقها من حروب قط.
الجيش السوري جنوبا وتركيا شمالا، وضعا حصارا ثنائيا محكما على المنطقة. بينما كان الاقتصاد التبادلي مع إقليم كردستان والحكومة المركزية العراقية يجري بعسر بالغ
أسست تلك الحروب نوعية من الاقتصاد المطابق لها. فقد صارت الجغرافيا عبارة عن مناطق نفوذ متصارعة، مفصولة عن بعضها البعض بالحواجز الأمنية والخنادق الحربية. الأمر الذي سمح لنوعية من النشطاء الاقتصاديين، مثل المهربين والقادرين على تشكيل علاقات مع مختلف المتصارعين، دون أن يكون لهم أي موقف سياسي منهم، لأن يصعدوا ويكونوا الأكثر قدرة على اللعب في تلك المساحة.
أفرزت تلك الصراعات المديدة تجار الحرب هؤلاء، من الذين كانوا من طرفٍ يلبون حاجات وفروض التنظيمات والقوى المسلحة المتصارعة، لكنهم بالأساس كانوا يكسبون ويراكمون ثروات فائضة جراء أعمالهم التبادلية في مناطق الصراع تلك.
الديناميكية الثانية تمثلت في خلو تلك المنطقة من الشرعية. فالدولة السورية لم تعترف بالإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، بكل مؤسساتها البديلة وما تنتجه من مواد وخدمات وبيروقراطية. سحب الشرعية ذاك، امتد لكل الفاعلين والمنخرطين في الملف السوري. فحتى قوى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، والتي تُعتبر من أهم داعمي ورعاة "قوات سوريا الديمقراطية"، بقيت تعترف بأطر ووثائق ومؤسسات الحكومة السورية فحسب، ودون أن تمنح أية شرعية لما يوازيها من قِبل الإدارة الذاتية قط.
غياب الشرعية هذه دفع الكثير من أبناء الطبقة الوسطى والعليا في تلك المنطقة لأن يهاجروا، مقابل صعود أعداد من الوسطاء، الاقتصاديون منهم بالذات. هؤلاء الذين صاروا يديرون شبكات للالتفاف على غياب الشرعية، لاستيراد معظم المواد وتصدير الكثير منها، وتشكيل مؤسسات وأعمال اقتصادية متعددة الشرعية، مُعترف بها من قِبل الإدارة الذاتية لتلك المنطقة والحكومة السورية على حدٍ سواء.
كان هؤلاء الوسائطيون محل حاجة مشتركة من قِبل كثير من الجهات، فالإدارة الذاتية وأجهزتها الحاكمة كانت بحاجتهم لتيسير وتلبية حاجاتها الاقتصادية، كذلك كانت الحكومة السورية، التي ما تزال تعتبر تلك المنطقة مصدرا لكثير من حاجاتها الأولية. لكن المصدر الأهم لثروة هؤلاء الوسائطيين كان متمثلا في المجتمع نفسه. فقرابة خمسة ملايين نسمة من سكان هذه المنطقة كانوا يعتمدون على هذه الشبكات الوسائطية للحصول على مختلف حاجاتهم الحياتية، من الوثائق والأوراق الثبوتية إلى الأدوية والمواد الغذائية والتعليم وباقي الخدمات.
كان الحصار هو الديناميكية الثالثة المؤثرة على الحياة في تلك المنطقة. فالحكومة السورية جنوبا وتركيا شمالا، وضعا حصارا ثنائيا محكما على تلك المنطقة. بينما كان الاقتصاد التبادلي مع إقليم كردستان والحكومة المركزية العراقية يجري بعسر بالغ.
التقديرات غير الرسمية تقول إن قيمة الكميات النفطية المستخرجة تبلغ قرب نصف مليار دولار سنويا
دفع الحصار المديد نحو تراجع القيمة الفعلية لمنتجات المُلاك الزراعيين والمهنيين من أبناء تلك المنطقة. مقابل ازدهار أعمال المهربين والمحتكرين. الذين كانوا قادرين على استقدام نوعية من المواد والحاجات التي لم تعد متوفرة بسبب الحصار. كذلك فإن المهربين والمحتكرين صاروا أداة لإخراج منتجات المنطقة إلى خارجها، من المواد الزراعية إلى النفط، وليس انتهاء بعشرات الآلاف من السكان الذين هجوا من المنطقة نتيجة الحرب وعبر عمليات التهريب التي كان ينفذها هؤلاء.
ضمن هذا الفضاء من الحروب وغياب الشرعية والحصار صعد ذلك المزيج من الفاعلين الاقتصاديين، المؤلفين من تشكيلة من المهربين والاحتكاريين والوسائطيين، الذين كانوا حتى قبل سنوات قليلة لا يملكون أية ثروات أو نفوذ اقتصادي، وخارج الفاعلية الاجتماعية.
مصادر المال
طوال عقود كثيرة سابقة، كانت المنتجات الزراعية هي المصدر الوحيد لتدفق الأموال على هذه المنطقة، تحديدا القمح والقطن. فالتقديرات الوسطية كانت تشير إلى أن إنتاج تلك المنطقة كان بين 2-4 ملايين طن من القمح، ومليون طن من القطن، كانت تُباع بقرابة 1.5 مليار دولار سنويا، موزعة على سكان المنطقة، لكن تحديدا لعائلات الملاك الزراعيين الرئيسين، وإلى جانبهم بعض الحرفيين والمهنيين.
لكن الثروة الزراعية لم يعد لها أية قيمة، لأسباب تتعلق بالتغيرات المناخية التي أصابت المواسم الزراعية بأثر بالغ، ولتراجع القيمة الفعلية للمواد الزراعية الاستراتيجية، مثل القمح والقطن والبقوليات، بسبب الحصار ومنعها من التصدير.
في سياق رديف لذلك، فإن تلك المنطقة صارت تحصل على موارد اقتصادية جديدة، تصب في المحصلة في جيوب هؤلاء الفاعلين الاقتصاديين الجدد.
وقد صارت الموارد النفطية تستخرج لصالح الإدارة الذاتية لتلك المنطقة، التي تُشغل بها قرابة 300 ألف من موظفيها العموميين. فالتقديرات غير الرسمية تقول إن قيمة الكميات النفطية المستخرجة تبلغ قرب نصف مليار دولار سنويا.
كذلك، فإن كمية كبيرة من التحويلات المالية تتدفق من الخارج على هذه المنطقة، من نصف السكان الذين هجروها، لمن بقي من السكان داخلها.