أخبرني الرئيس الراحل سليم الحص، ضاحكا، بأن صلة القرابة تجمعنا. فبحسب قوله إن عائلته (آل الحص) قد "انشقت" عن عائلتي (عيتاني) في زمن مضى في "حركة تصحيحية". كان ذلك، في مقابلة شاركت فيها مع الزميلين الراحلين (أيضا) سهيل عبود ومصطفى ياسين، بعد أسابيع من استقالة الحص من رئاسة الوزراء وتكليف الرئيس عمر كرامي تشكيل الحكومة التي تألفت بعد الإطاحة بتمرد الجنرال ميشال عون في أكتوبر/تشرين الأول 1990، واستعصائه في قصر بعبدا الرئاسي ورفضه اتفاق الطائف الذي كان يرمي إلى إنهاء الحرب الأهلية.
تكلم الرئيس الحص بصراحة عن مدة "الحكومتين". الأولى التي كان يرأسها هو، والثانية العسكرية التي كانت تضم عون وضابطين من أعوانه وعن "حرب التحرير" التي شنها رئيس الحكومة العسكرية فكانت سببا في إلحاق المزيد من الدمار بلبنان.
وفي بدايات عملي الصحافي كنت مكلفا بتغطية أخبار الحص من مكتبه الواقع في المبنى ذاته الذي يقيم فيه. وكان بعد انتهاء اجتماعاته ولقاءاته يستقبل الصحافيين ليخبرنا بما كان يجري من تطورات، خصوصا أن المرحلة تلك شهدت اجتياح صدام حسين للكويت والكارثة التي جلبها العمل ذاك على المنطقة، في ما يشبه الإيجاز الصحافي اليومي يتولى هو شخصيا تقديمه. وحدث أن كان في أحد تلك اللقاءات زميل عاد لتوه من الكويت حيث كان يعمل، روى معاناته مع باقي من اضطروا إلى الهروب من الاحتلال العراقي، فأنصت رئيس الحكومة بدقة إلى ما قاله الزميل العائد على عادته في الاهتمام بكلام محدثيه. وكان الحص يستمع إلى الصحافيين ولا يبخل بإجابة مهما كان السؤال سطحيا.
بعد حوالي العام والنصف، في 1992، وعند مدخل أحد مراكز الاقتراع للانتخابات النيابية الأولى والتي جرت بعد الحرب الأهلية وإدخال التعديلات الدستورية التي نص عليها "الطائف"، وقف شرطي يتحدث مع المنتظرين دورهم للإدلاء بأصواتهم وجلهم ممن يشارك في العملية الانتخابية للمرة الأولى في حياته بعدما توقف الاستحقاق الانتخابي أثناء سنوات الحرب. كان الشرطي يسأل الواقفين من دون تكلف، وفي نوع من المحادثة الأليفة: "وأنت... من ستنتخب؟"، فكانت الإجابات واحدة "سليم الحص". بداهة السؤال والجواب لا يتفقان مع تقاليد الديمقراطية ولا الحفاظ على سرية التصويت... لكن "العتب مرفوع" في أجواء "الأهلية بمحلية" بين عناصر الشرطة المصابين بالملل والناخبين المنتظرين على سلالم المدارس الرسمية دورهم في الاقتراع. استنتج شرطي من الواقفين أمام كثرة الإجابات التي قال أصحابها إنهم سينتخبون الحص "أنك إذا جرحت إصبعك سينزل دم يقول سليم الحص"....
مجيء رفيق الحريري في أوائل التسعينات كان شيئا لم يعرف الحص شبيها له. كان الحريري النقيض التام لسليم الحص
لم يتح لي بعد ذلك الاتصال بالرئيس السابق بسبب تغير ظروف العمل وإن ظللت متابعا لمواقفه وآرائه بعد مجيء رئيس الوزراء الجديد رفيق الحريري. انتخابات سنة 1996 النيابية كانت صعبة جدا على الحص. ففيها تكثفت كل العناصر التي جعلت زعامة الحص تذوي مقابل الصعود الباهر لقيادة الحريري.
والحال أن الحص جاء إلى العمل السياسي اللبناني من دون العدة اللازمة للانخراط و"النجاح" فيه. الخبير الاقتصادي الآتي من عائلة متواضعة والمشبع بروح عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب وهو العهد الوحيد الذي شهد محاولة ذات مغزى لتفكيك الزعامات التقليدية وبناء دولة (شبه) حديثة في لبنان، لم تتح له الظروف التزود بضرورات بناء الزعامة على الطريقة اللبنانية. ذاك أن للزعامة في بلادنا لوازم تختلف عما هو معروف في بلدان أخرى، من أهمها "العزوة" بمعنى الانتساب إلى جذر عائلي وتجييشه في العمل السياسي. وإذا كان عدد من سياسيي الطائفة السنية قد افتقر إلى العزوة تلك بسبب اندثار الرابط القبلي والعشائري بين سنة السواحل، فإن قابلية الانتساب تلك قابلة للاستبدال بالنسب الإقطاعي أو بتأسيس واحد من "البيوتات" السياسية والانطلاق منه لترسيخ وراثة سياسية. عائلات سنية من شمال لبنان سارت على هذا الدرب، فيما شقت أسر سياسية أخرى طريقا مشابها ضمن لها الامتداد بين جمهور السنة اللبنانيين.
كما أن الحص، لم يكن ثريا. عمله السابق كمستشار مالي واقتصادي وفر له حياة كريمة لكن من دون أن يراكم ثروة هي من ضرورات بناء الزعامات في لبنان. فالمال عنصر لا غنى عنه في توفير المؤيدين والإنفاق عليهم واستتباعهم ووضعهم في موضع المؤيد الأعمى لقائده، مهما بلغت آراء الأخير من شطط أو غثاثة.
بيد أن أهل بيروت والسنة الآخرين أحبوا الحص ربما للأسباب هذه بالضبط. فهو على خلاف الزعماء السنة الآخرين، بنى نفسه بنفسه وامتاز بالتحصيل العلمي الرفيع والهدوء والابتعاد عن صخب الخطابات الذي سيطر على ساحات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وينتمي إلى مدرسة سياسية تعلي من شأن الدولة ومؤسساتها والخدمة العامة فيها على غرار صديقه رئيس الجمهورية إلياس سركيس الذي كان أول من عينه على رأس الحكومة اللبنانية في أعقاب انتهاء العامين الأولين من الحرب الأهلية حيث ساد وهم بقرب عملية إعادة إعمار لبنان والمصالحة السياسية.
مجيء رفيق الحريري في أوائل التسعينات كان شيئا لم يعرف الحص شبيها له. كان الحريري النقيض التام لسليم الحص. الثراء الهائل، والعلاقات المتشعبة مع كل من يمكن تصوره من شخصيات عربية وعالمية، والاستناد إلى توافق عربي وغربي كبير لإعادة إعمار لبنان، وفرض تسوية سياسية "بمن حضر" خصوصا بعد طرد ميشال عون وتهميش "القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب" أي الممثلين الرئيسين للمسيحيين في لبنان الذين استعيض عنهم ببعض من الشخصيات التابعة لأجهزة المخابرات السورية.
الحص وجد في التمدد السريع لنفوذ الحريري وامتداد ظله ليغطي الأكثرية الساحقة من الطائفة السنية، محاولة لإنهاء دوره
الأرجح أن الحص، وقد كُتب الكثير في ذلك، وجد في التمدد السريع لنفوذ الحريري وامتداد ظله ليغطي الأكثرية الساحقة من الطائفة السنية، محاولة لإنهاء دوره، ما حمل الحص على تبني جملة من الخيارات التي يغلب عليها طابع "الضدية" بمعنى السير في الاتجاه المعاكس لخط الحريري في كل خطوة وتفصيل، حتى لو تناقض مع ما كان يدعو إليه في السابق. وصولا إلى قبول تكليفه برئاسة الوزراء من قبل الرئيس إميل لحود الخصم اللدود للحريري والذي جاء في إطار تصفية حساب لفريق معين من المسؤولين السوريين الموالين "للرائد" بشار الأسد الذي كان يُعد لتولي الحكم خلفا لوالده المريض. ووافق الحص على أن يتورط في لعبة تصفية الحسابات الكيدية التي حصد جميع المشاركين فيها الثروات والمواقع والامتيازات ما خلاه. حيث كانت وبالا عليه وعلى إرثه وسمعته، جراء تفضيل السنة اللبنانيين الوجه التقليدي من الزعامة القائمة على "العزوة" والثروة ومظاهر القوة والمنعة المتوافقة مع ذلك العصر الذي لم يكن سليم الحص مهيئا لتقبله...