لماذا يُهمل المسرحيّون شكسبير الكوميدي؟

لماذا يُهمل المسرحيّون شكسبير الكوميدي؟

كتب وليم شكسبير نحو 17 مسرحية كوميدية، نَسيها المختصّون والناس، سواء في العالم العربي أو حتى الأوروبي، ولا يتذكّرون سوى تراجيدياته الكبيرة، "هاملت" و"عطيل" و"مكبث" و"الملك لير"، ومسرحياته التاريخيّة مثل "ريتشارد الثاني" و"ريتشارد الثالث".

لم يُعامل شكسبير وحده في هذا الإهمال، فمعظم القيّمين على المسرح والنقاد والباحثين، يركزون على بيكيت المسرحي، من دون الاهتمام برواياته التي بدأ بها مشواره الأدبي، متأثرا بالموجة الروائية الجديدة في فرنسا. وقد قرأنا هذه الروايات، وبدت لا تقل قوة عن دراميّاته، وهو من كبار الروائيين، ونظن أنه مغبون بمسرحه (كتابة وإخراجا) وهو من أعظم مبدعي هذا النوع، فلا نتذكّر منه، سوى مسرحيات "في انتظار غودو" أو "الشريط الأخير" و"نهاية اللعبة"، وننسى نصوصه القصصيّة. وعندنا سعيد عقل في لبنان يُعامل بالطريقة ذاتها: كتب الكثير عن شِعره لكن أهمل أنه كتب في بدايته مسرحيّتين لم تُقدّما على المسرح هما "قدموس" و"بنت يفتاح"، وحتى الروائي الأميركي إرنست همينغواي، الذي لقيت رواياته نجاحا كبيرا، لا يعرف الكثيرون أنه بدأ شاعرا.

كنت محظوظا بقراءة مسرحيات شكسبير الكوميدية، فعالمه الكوميدي يختلف جذريا عن أعماله التراجيدية، لا عنف ولا صراع على السلطة ولا قتل ولا مبادئ ولا نقد قاس... عالمه هذا فيه من الخفّة والصرامة والتنوّع والسخرية، التي تجري أحداثها عموما في الغابات والبساتين وكذلك في القصور. كأنه يحب الخضرة والفسحات التي تلائم مناخات مسرحياته، وهي تتميّز بالسخرية التي تلامس المتخيّل الفسيح لأبطاله، ونجدها خصوصا في "حلم ليلة صيف"، و"ليل الملوك"، وهو أيضا يختار الأماكن البعيدة عن إنكلترا، كما في مسرحية "كثير من الضوضاء بلا شيء"، التي تجري في مسينا.

في معظم مسرحياته تكون نهايات سعيدة لأن كل شيء ينتهي بسعادة لا بدّ أن يكون كوميديا

فعنوان هذا العمل يذكّر ببعض الأمثال ويوحي بالخفّة، يذكر "بفانتازيا" مسرحية في "كما يحلو لك"، وغالبا ما تجري مسرحياته في مناخ أخطر حيث القوى الطبيعية والغرائز وتأثير الغابة أو الحديقة، التي تلائم الفخاخ والمؤامرات.

لكن بالنسبة إلى شكسبير، فإن لعبة الحب والمصادفة لا تؤدي إلا إلى الزواج. "كثير من الضوضاء للاشيء" مسرحية تعالج بلغة كوميدية ونصف جدية مسألة الغيرة التي نقرأها كثيرا في تراجيدياته كما في قصائده. فكلاوديو سيّد مسينا يقع في غرام هيرو، ابنة دوق ليوناتا، حاكم المدينة، لكن دون جوان، الأخ غير الشرعي لدون بدرو، أمير أراغون، يُدسّ لمنع هذا الزواج بإقناع كلاوديو بأن هيرو تخونه عشية زواجهما. ففي عشية زواجهما، جنّ من الغيرة، فاتهم حبيبته في عزّ الزفاف الديني بالخيانة. أما هي فتسقط أرضا كأنها فارقت الحياة، واستمر ذلك حتى قبض ضابط المدينة مصادفة على بوراشيون، رجل دون جوان، الذي يعترف بدوره في اختلاق هذه التهمة لهيرو. وتبرز في هذه المسرحية الحوارات اللامعة والنكات في المسرح الكوميدي الشكسبيري. لكن هيرو تفيق بعدما عرفت المؤامرة، وبدل أن تعود إلى حبيبها، ترشقه بالسباب والصفات الدونية... ويريد شكسبير القول من خلال ذلك إن أهل القصور، يضعون أقنعة شفّافة تخفي مستويات من السوقية.

ومن البديهي القول إن الكوميديا في العصر الأليزابيتي تختلف كثيرا عن الكوميديا الحديثة، فنرى في أعمال شكسبير نهايات سعيدة (وأحيانا غير سعيدة)، وغالبا ما تفضي إلى زواج بين الشخصيات. ولكوميديات شكسبير لهجة وأسلوب تعبير أخف من مسرحياته التراجيدية، وتركز على المواقف عكس تراجيدياته التي تركز على الشخصيات، وحتى المشاهد الصعبة تبدو مضحكة، حيث الصراع بين العشاق يؤدي إلى تخطي المصاعب، وغالبا ما يكون من قبل الكبار، ويكشف شكسبير الأقنعة التي يختبئ خلفها الخداع، وخاصة الهوية المضلّلة، في ظلّ حبكات متلاحقة مركّبة لا تتوقف, وفي معظم مسرحياته تكون نهايات سعيدة، لأن كل شيء ينتهي بسعادة لا بدّ أن يكون كوميديا. ويتخلّل ذلك ما يسمى الكوميديا الأخلاقية التي جسّدها وهجا، شايلك في مسرحية "تاجر البندقية".

فهل سيبقى مسرح شكسبير الكوميدي كأنه ابن غير شرعي له؟ هل ستبقى المسرحيات التراجيدية وحدها تمثّل هذا العبقري، أكبر شاعر عرفته البشرية، كما يقول كثير من النقاد والباحثين؟ هل يبقى في إطاره التراجيدي وشخصياته التي غزت العالم وصارت رموزا للديكتاتورية والعنف والصراع على السلطة والنهايات المأسوية؟

font change