محمد ملص لـ"المجلة": التحايل على الرقابة ساعدنا في تعميق لغتنا السينمائية

مشاريع مؤجّلة وأخرى مجهضة

AFP
AFP
المخرج السوري محمد ملص يحمل جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "باب المكان" خلال حفل اختتام مهرجان مراكش السينمائي الدولي 19 نوفمبر 2005

محمد ملص لـ"المجلة": التحايل على الرقابة ساعدنا في تعميق لغتنا السينمائية

إذا ما نقّبنا في السيرة الذاتية للمخرج السوري محمد ملص (1945) فسنرتطم بكتلة من مشاعر الفقدان وفداحة الخسارات، ونخمن العلاقة الوطيدة مع رماد مدينته القنيطرة التي لم يتمكن من تجاوزها، فيستعيدها بصريا بذاكرة طفل السابعة من العمر، حين هُجر منها قسرا. فهو لم يكتف بالتمرد في أفلامه، بل خاض تمرده الشخصي حين طاردته الرقابة ولم تعد تنتج أفلامه. وأخذ يحاول البحث عن التمويل المشترك ليتابع تحقيق مشاريعه السينمائية.

"المجلة" حاورت ملص الذي كان له دور جوهري في تشكيل ملامح السينما السورية ونهوضها في ثمانينات القرن الماضي، وكيف تحايل على المقص الرقابي؟ وماذا عن المشاريع المؤجلة التي لا تزال حبيسة الأدراج؟ وهل نجح في العثور على صورة فلسطين من خلال المنامات في فيلمه "المنام"؟

مكرّم في الخارج منسيّ في الداخل

كُتب لهذا الحوار أن يتأجل مرات عدة، لانشغالات ملص في تخرج دفعته الأولى في الجامعة العربية الدولية التي درّسها خلال السنوات الأربع الماضية، وسفره إلى مدينة بولونيا في ايطاليا؛ بعد تلقيه دعوة للمشاركة في مهرجان "الاستعادة" الدولي الذي يقيمه "السينماتيك" الإيطالي التابع لصندوق المخرج العالمي مارتن سكورسيزي لترميم الأفلام العالمية وحمايتها وعرضها عالميا، خاصة تلك التي صورت على شرائط سينمائية، وحمايتها من التلف، وأيضا لعرض فيلمه "الليل" (1994) واللقاء مع جمهور هذا المهرجان. يقول ملص لـ"المجلة": "سعدت بهذه الدعوة، خاصة بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على فيلم ’الليل’ وغياب أي تصور علمي ودقيق على السلامة الراهنة للفيلم تقنيا وفنيا. وإتاحة الفرصة لترميمه. إذ غالبا ما تتعرض الأفلام السينمائية القديمة إلى أذى تقني وفني، فيأتي الترميم محاولة لإعادة ما كان عليه الفيلم، والحصول على نسخة جيدة له". الدعوة التي تلقاها ملص بحد ذاتها هي تقدير له كسينمائي كبير، بخلاف التكريمات الداخلية المؤجلة أو تلك التي تأتي متأخرة جدا. وفي سوريا غالبا ما تأتي بعد رحيل صاحبها.

لم تعد المؤسسة العامة للسينما تنتج لي أي فيلم انطلاقا من شعور كامن في فهم خاطئ لمفهوم الثقافة

يبدو أن المخرج السوري لم يلق تقديرا رسميا مستحقا من الجهات المعنية في بلاده، فالمنابر الخارجية أول من تفتح له ذراعيها تقديرا لأعماله الراسخة التي كانت حجر أساس في نهوض العمارة السينمائية السورية. ففيلم "الليل" عرض لمرة واحدة فقط، يقول: "منذ العرض الرسمي الأول لهذا الفيلم في مكتبة الأسد، لقي قراءات ضيقة الأفق، ليعرض عرضا محدودا ولم يعرض ثانية منذ ذلك الحين، كما لم تعد المؤسسة العامة للسينما تنتج لي أي فيلم انطلاقا من شعور كامن في فهم خاطئ لمفهوم الثقافة والأشكال المختلفة والمتعددة للتعبير عنها وعن مهماتها".   

ابن الشوارع

بمراجعة متأنّية لسيرته السينمائية الحافلة بالفقدان، نجد أن كل ما كتبه ملص وأخرجه هو ما عاشه، فهو استعادة بصرية أمينة لحياته، ولما التقطته عدستا عينيه حين كان يعيش في الشارع ويجلس على حواف الأرصفة في الأحياء الشعبية يراقب الحياة بعينين فضوليتين، فكان الشارع يتخذ طابع المنزل المفتوح على التجارب والاكتشاف وتحمّل المسؤولية مبكرا والتقاط التفاصيل المهمشة للحياة الاجتماعية في دمشق الخمسينات. يقول: "أطللت على نافذة الحياة منذ السابعة من العمر، ولا أنسى ما قالته والدتي لي ولأخي بأن علينا العمل ليكون لدينا خبز على المائدة، فبعد وفاة والدي انتقلنا إلى دمشق، وعملت في سن السابعة بمحل لغسيل الملابس، ولأنني لم أنشأ في منزل مغلق بل في الشارع، تمكنت من مراقبة الحياة الاجتماعية في الأحياء الدمشقية الشعبية، التي جسدتها في فيلمي الأول 'أحلام المدينة'، الذي حاز استقبالا شعبيا كبيرا واحتضنه العديد من المهرجانات السينمائية ونال ثلاث عشرة جائزة دولية، وجائزة يونسكو في مهرجان كان الدولي".

يتابع: "خلفت الحياة  التي عشتها آثارا عميقة في داخلي دفعتني إلى البحث عما كان سائدا في تلك الحقبة، فحاولت التعبير عما هو مفقود، لعلّ قوة 'أحلام المدينة' تكمن في تعبيره عن الواقع الحقيقي الذي كنا نعيشه في خمسينات القرن الماضي، والتعبير عن الديمقراطية التي كانت سائدة".  

AFP
درعا في 19 يوليو 2017

ما أنفك ملص ينبش في ذلك الماضي، فكان التوغل في المكان الأكثر حميمية، مدينة القنيطرة التي احتلتها إسرائيل خلال حرب 1967، فما كان منه إلا أن أعاد بناءها في كوادره السينمائية وأبقاها شاهقة في الذاكرة إلى الأبد.  

السينما المشتهاة

أجُهض حلم المخرج السوري بتتويج هذين الفيلمين بفيلم ثالت يشكل خاتمة لـ"ثلاثية الفقدان" السينمائية، وذلك بسبب ذهنية الإقصاء والعزل التي تنتهجها المؤسسة العامة للسينما، كما يقول، وذلك على الرغم من تعاقب الإدارات على مدار السنوات. بقي مشروع هذا الفيلم، "سينما الدنيا"، مشروعا في الذاكرة، "ترى هل سيسعفني الزمن لتحقيقه؟"، يتساءل ويجيب: "لا أدري"، فسلسلة الرفض الطويلة دفعته إلى تحقيق أفلام أخرى عن طريق الإنتاج الخاص والمشترك، يقول: "كأننا أصبحنا قطيعا وكتلة بشرية واحدة ليست لها ذات منفردة سواء في فرحها وألمها، هذه الذات المفقودة هي التي جعلت الرقابة في المؤسسة العامة للسينما ترفض هذا الفيلم، باستثناء تلك التي أبصرت أفلامي في عهدها النور. بعدها بدأت التوجهات السينمائية تختلف وتفرض توجهات لا أتفق معها".

قوة 'أحلام المدينة' تكمن في تعبيره عن الواقع الحقيقي الذي كنا نعيشه في خمسينات القرن الماضي

لم يستسغ ملص مرارة الرفض، فليس غريبا عنه التمرد الذي يجري في شرايينه، يقول ضاحكا: "نحن أبناء التحايل على الرقابة، وقد ساعدنا ذلك كثيرا في تعميق لغتنا السينمائية والبحث الدائم عن لغة في ظلّ غياب التعبير المباشر، تتيح للعمل الفني أن يغدو عملا فنيا أعمق وأهم".

سينما موؤودة

يستذكر ملص حادثة حصلت معه في عام 2015 حين قدم الى إدارة السينما آنذاك سيناريوا لأحد الأفلام، ومنذ ذلك الوقت لا يزال الجواب معلقا. فالسيناريو لم يواجه لا القبول ولا الرفض. إلا أن إجهاض المشاريع المستمر لم يثن ملص عن إصراره على الحصول على تمويل مشترك لإنجاز مشاريعه السينمائية التي تستهدف ترميم الذاكرة السينمائية السورية .  

فيلم "باب المقام" (1004) امتداد روحي وفكري وجاء بالنسبة إليه في أوانه، وكانت البداية من قصاصة بجريدة رسمية أوردت خبر جريمة قتل امرأة بدمشق في عام 2001 بذنب شغفها بالغناء والطرب، وقد هزت هذه الحادثة المأسوية كيانه واستفزّت حسّه السينمائي فانتقل بها إلى داخل الكادر السينمائي. فالجريمة التي يصور وقائعها في حلب ما هي إلا حادثة مكرورة في جميع المدن السورية ومسكوت عنها وتمارس في الظل. وقدم ملص في "باب المقام" قراءته لتحولات المجتمع السوري، فاضحا الممارسات الذكورية ومسلطا الضوء على واقع المرأة العربية عموما والسورية خصوصا، وطارحا سؤالا جوهريا: كيف يمكن لمدينة راقية كحلب أن تنحدر إلى هذا المستوى من التخلف؟ يقول: "أردت نقل الحادثة إلى حلب، وإذا كانت الحادثة سجلت في دمشق، فهناك الكثير من الحوادث المثيلة في بقية المدن السورية، وكي لا أجعلها حادثة فردية، خاصة أن الفيلم صوِّر في عام 2003 الذي تصادف مع الاحتلال الأميركي للعراق، أردت أن أجعل منها جريمة وطن، لا جريمة شرف، وتصادف هذا مع بحث إحدى المنتجات الفرنسيات عن حكاية حول جريمة شرف، فشاركت في التمويل... نقلت الحدث إلى حلب اليوم والتي كانت مدينة الغناء، ليصبح الغناء في فيلمي شبهة تستدعي القتل". كرّست الحرب السورية الاصطفافات الفنية كما السياسية، وحصرت مفهوم الانتماء بين ضد أو مع، دون أي اعتبار للثقافة التي يجب أن تكون فوق كل شيء وأداة لتطور المجتمع. لكن أليس من الضروري صنع أفلام سينمائية داخل سوريا تتمخض عن سنوات الحرب التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن؟ يجيب المخرج السينمائي: "المعيار الوحيد للسماح بإنتاج فيلم عن الحرب السورية هو ألا يصطدم مع النظام والسلطة، فيسمح به حتى لو كان سطحيا ولا يحمل أي قصة مهمة". يتابع كلامه: "كثيرا ما فقدت المؤسسة العامة للسينما قوتها وديمقراطيتها في منتصف التسعينات، نتيجة أن السياسة اختزلت بالسلطة، وهذا مفهوم خاطئ، كما أن مفهوم الثقافة ودورها يختلف تماما عن مفهوم السياسة ودورها". 

لكون ملص يتمتع بشخصية متمردة على كافة أنواع الاستبداد السياسي والتطرف الديني، أدار كاميرته ونصبها في أحد البيوت الدمشقية وأسكنه طلبة وموظفين وشخصيات من مختلف المدن السورية بمن فيهم طالب من الجولان المحتل. وتحت دوي القذائف وراوئح الموت والأجواء المشحونة بالرعب وفي ظل المنع من التصوير، كان الشريط السينمائي "سلّم إلى دمشق" (2014) . طبعا لم يتح عرض هذا الفيلم في سوريا، فعرض لأول مرة في مهرجان تورونتو بكندا، ليصل إلى عروض أخرى في دول عدة.

كأننا أصبحنا قطيعا وكتلة بشرية واحدة ليست لها ذات منفردة سواء في فرحها وألمها

وصايا لم تنفذ

في منتصف الثمانينات اتفق محمد ملص مع زميله المخرج السينمائي الراحل عمر أميرالاي لتحقيق مشروع تسجيلي لسلسلة أفلام أطلقا عليها اسم "الوصايا العشر" التي يصفها ملص بأنها محاولة للتعبير عن شخصيات وطنية وثقافية مهمة لا بد من نفض الغبار عنها. يقول: "المشروع آنذاك كان رغبة في تطوير السينما الوثائقية في سوريا، على أن يضم عشر شخصيات سواء بشكل منفرد او ثنائي، فتمكنا من استعادة شخصيات مهمة مهمشة، مثل نزيه الشهبدر من أوائل مؤسسي السينما السورية، والفنان التشكيلي فاتح المدرس، والملحن الحلبي صبري مدلل صاحب المقامات والموشحات الدينية، والكاتب المسرحي سعد الله ونوس، فحققنا فيلمين، فحقق عمر مع المخرج اسامة محمد فيلما عن سعدالله ونوس، وحققت فيلما عن صبري مدلل. غير أن الوصايا لم تكتمل بسبب الظروف المادية وعدم الدعم والانشغالات الشخصية".

حمى الكتابة

نترك ملص المخرج جانبا، لنقترب منه أكثر، إذ يمارس ملص الكتابة كمهنة جانبية تنجيه من الملل ومحاولة لملء فراغ الوقت حين يكون بعيدا عن شغفه الأول وهو الكاميرا، غير أن هذه الحرفة ليست طارئة، بل قديمة وتحديدا منذ سفره إلى موسكو عندما هجر دراسة الفلسفة لصالح الإخراج وشرع بكتابة روايته اليتيمة، "إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب" التي أبصرت النور بإيحاء وتأثير من الروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي كان يشاطره الغرفة نفسها رقم 403، على الرغم من تمكّنه من كتابتها بسرعة لجهة هبوط الوحي وتدفق الأفكار دفعة واحدة، غير أنه انتظر عشر سنوات ليُسمح لها بالنشر، وذلك بسبب سيف الرقابة الحاد في دمشق، ليلحقها بكتابه الثاني "المنام" (1990)، موقظا منامات الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية، مستعينا بالمادّة المصوّرة في فيلمه التسجيلي الذي حمل الاسم نفسه.  لكن ماذا عن منامات السوريين، يقول: "هذا الفيلم كان مقررا أن يكون سوريا وليس فلسطينيا، لكنه قوبل بالرفض كالعادة، وهذا التحول أتاح لي أن أتناول الموضوع الفلسطيني من منظور سوري، حاولت البحث عن صورة فلسطين لدى من عاش فيها، وفي قلوب من لم يرها ولا يعرفها لكنه يقاتل في سبيلها، غير أن كتاب المنام فيه منامات كثيرة لم أتمكن من تصويرها في الفيلم التسجيلي".

AFP
المخرج السوري محمد ملص في افتتاح مهرجان قرطاج السينمائي، 1 أكتوبر 2004 في تونس

 أصيب ملص بحمى كتابة يومياته التي وجد نفسه منخرطا فيها منذ أواخر الستينات حتى التسعينات بما يشبه طقسا يوميا دؤوبا دون انقطاع ليطلق عليها "المفكرات"، موثقا تجاربه الحياتية كـ"يوميات موسكو" غير المنشورة، بينما كان كتاب "وحشة الأبيض والأسود: يوميات 1974- 1980" الذي صدر عن "دار نينوى" تشريحا لوضع الثقافة السورية واحتضارا للجسد السينمائي بسبب الرقابة والقمع الفكري، ففي رصيده نحو سبعة كتب منها "مذاق البلح" (2010)، إلى جانب "الكل في مكانه"، و"كل شيء على ما يرام سيدي الضابط" الذي أفرج عنه في عام 2003 مستعيدا مناخات تخرجه في معهد السينما.

التقيت طلابا يتقدّمون لدراسة السينما يجهلون المحافظات السورية ولم يزوروا سوى المدن التي يقطنونها

هذا الولع بالكتابة يأتي من كونه مؤلف أفلامه ومؤسسا مهما لـ"سينما المؤلف"، ليتوقف عن ممارسة "إثم الكتابة اليومية" كما يصفها، ليبدأ بكتابة مفكرة السنوات الأخيرة  من الحرب كما يطلق عليها بين عام 2011ـ 2014، لكن هذه المرة على شاشة الكومبيوتر الشخصي محتفظاً بنسخ إلكترونية عديدة خوفا من أي هجمة شرسة فيروسية تطيح ذاكرته، يقول: "منذ بداية الحرب بدأت بكتابة المفكرات لكن ليس بشكل يومي، وتوقفت عند عام 2014، أطلقت عليها تسمية مفكرة الأعوام الأخيرة، تدور حول ما كان يجول في خاطري معبرا عن الحالة التي كنت أعيشها".

يشرف محمد ملص حاليا على تخريج الدفعة الأولى من طلاب السينما في الجامعة العربية الدولية الخاصة، ليكون التعليم بالنسبة إليه تعويضا عن نقائص الحياة، يقول: "انشغالي بالتدريس حاليا في الجامعة العربية الدولية، بعد العديد من الورشات، يأتي من حرصي الشديد على الجيل الجديد الذي فقد الفرصة للكثير مما عاشه في الحرب وما كان متاحا لنا في الظروف التي نشأنا وتطورنا خلالها، هذا الجيل لم تسمح له الظروف بأن يعيش التجارب الحياتية والسينمائية التي عشناها. وقد التقيت خلال السنوات الأربع المنقضية طلابا يتقدّمون لدراسة السينما ويجهلون المحافظات السورية، ولم يزوروا سوى المدن التي يقطنونها".

font change

مقالات ذات صلة