واحد من الاستنتاجات الجوهرية التي يخرج بها قارئ مجموعة الكاتب المصري حسن عبد الموجود القصصية الجديدة "تاجر الحكايات" (الدار المصرية للكتاب) هو أن كاتب القصة أيضا يمكنه أن يستدرج إلى مساحته السردية تلك المفارقات والاستعارات والومضات المدهشة التي تنتمي عادة إلى عالم الشعراء والشعر.
ما يجعل حدوث ذلك أمرا ممكنا ومرغوبا أيضا، أن المجموعة هي أقاصيص، وبدقة أكثر قصص قصيرة جدا. هذا القِصَر وهذا الاختزال يجعلان مساحة النص أصلا ضيّقة ولن تتسع إلا لفكرة واحدة أو مفارقة واحدة. في هذه المساحة الضيقة، وهي مساحة اختيارية بالطبع، يحاول الكاتب إنجاز قصة أو حكاية بأقل ما يمكن من الكلمات. الهدف هو قصة، ولكن المسعى شعري أو مكثّف على الأقل. الكثافة هنا مطلوبة، وكذلك الاقتصاد في اللغة وعدم الاسترسال. إنها كتابة بالممحاة، وهو التوصيف الذي يُقال عادة في الكلام عن تجارب شعرية يحاول أصحابها أن ينجزوا قصائد قصيرة خالية من الاستطراد والشرح، وخالية أكثر من تلك السطور التي لا تضيف شيئا جديدا إلى سياق القصيدة ومعناها، بل إنها تُرهّل بنية القصيدة وتجعلها رخوة وفيها استرسالات غير محبّذة. كل هذه الممارسات تقريبا حاضرة في هذه الأقاصيص، بما يجعلها تلمع كومضة أو شذرة مدهشة.
يبدأ ذلك منذ الأقصوصة الأولى التي تحمل عنوان "طابور الذّهب"، ويمكن، بسبب قِصَرها، إيرادها هنا كاملة كأننا نستشهد بنص أو مقطع شعري قصير: "حين اشتدّ الغلاء بدأ شارع ’الجنينة’ يزدحم بالسيدات المتّشحات بالسواد. يقفن في طابور متعرج أمام دكان ’مشغولات البطل الروماني’. لا يظهر منهنّ سوى وجوه حزينة تزيّنها وشومٌ خضراء. تخلع إحداهن قرطا أو خاتما أو إسورة أو سلسلة. تمدّها بيد معروقة ترتجف إلى الخواجة ’بسطا’ النحيف. يزنُ ثقلها في يده ثم يضعها على ميزانه الحسّاس، ليرى إن كان تخمينه صائبا. أيام الآحاد يُخرج حصيلة المشغولات من صندوقه الخشبي. يرفعها فيسقط بعضها على الأرض. يُلملمها ويضعها فوق النار. يفكر بسعادة أنه الوحيد القادر على تحويل أحزان مدينة بأكملها إلى سبيكة ذهب".