المعضلة الإيرانية... الاختيار بين "المقاومة" والدبلوماسية

ستظل تناقضات السياسة الخارجية لطهران تراوح مكانها

 أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يتحدث أمام البرلمان في 21 أغسطس

المعضلة الإيرانية... الاختيار بين "المقاومة" والدبلوماسية

يتمتع عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني الجديد، بأكبر شهرة بين أعضاء مجلس الوزراء الجديد للرئيس مسعود بزشكيان. كان عراقجي، السفير السابق في فنلندا واليابان، نائبا أعلى لوزير الخارجية الإيراني التاريخي جواد ظريف طوال فترة توليه لمنصبه التي امتدت من 2013 إلى 2021. ويُعتبر أحد الدبلوماسيين الإيرانيين الأكثر موهبة إلى حد كبير. وبما أن الفريق الانتقالي للرئيس بزشكيان كان بقيادة ظريف، كان من المتوقع أن يعود عراقجي كواحد من كبار الدبلوماسيين في طهران. وفي يوم الأربعاء، حصل على الموافقة من البرلمان الذي يهيمن عليه المتشددون.

وتولي منصب وزير الخارجية هو أعلى طموح يمكن أن يتطلع إليه أي دبلوماسي وهو إنجاز تاريخي لعراقجي الذي خدم في الوزارة منذ عام 1988. لكن هذا المنصب، كما كان ظريف يشتكي في كثير من الأحيان، لا يحسد عليه أحد في إيران، والعلة في ذلك أن طهران طالما سعت وراء أهداف في السياسة الخارجية تتعارض بشكل حاد واحدها مع الآخر، ما أدى إلى وقوع صدامات وإحباطات.

فمن ناحية، تتعهد إيران بإقامة علاقات حسن جوار مع دول المنطقة والدول الأبعد وتقول إنها تريد للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها، والتي أعاقت اقتصادها لفترة طويلة، أن تُرفع. لكن من ناحية أخرى، فإن غاية وجودها الرئيسة هي قيادة حركة ثورية إسلامية عالمية مناهضة لأميركا، تضم ميليشيات رئيسة في الكثير من الدول العربية، ومعظمها مصنفة كمنظمات إرهابية ليس من قبل الغرب وحسب، ولكن من قبل بعض دول المنطقة أيضا. والهدفان كما يبدو بجلاء متناقضان، ليس فقط من الناحية النظرية المجردة ولكن من الناحية العملية المباشرة أيضا.

لقد أعلن بزشكيان على سبيل المثال أثناء الحملة الانتخابية مرة تلو الأخرى أنه يريد شطب اسم إيران من القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF)، ومقرها في باريس، والتي تكافح عمليات غسيل الأموال في ثلاث دول، هي إيران وكوريا الشمالية وميانمار. لكنه تعهد، في الوقت نفسه، بتقديم الدعم الكامل لمحور المقاومة، الذي صُنفت معظم المنظمات الأعضاء فيه كمنظمات إرهابية. كيف يمكن لإيران أن تستمر في تسليح وتمويل هذه المجموعات وتتوقع من مجموعة العمل المالي تبرئة اسمها؟ المتشددون الإيرانيون، من أمثال سعيد جليلي الذي خسر أمام بزشكيان في الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي، هم على الأقل أكثر اتساقا، لذلك تراهم يعارضون أي جهد تبذله إيران لتسوية الأمور مع مجموعة العمل المالي (FATF).

أعلن بزشكيان أثناء الحملة الانتخابية أنه يريد شطب اسم إيران من القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF)، لكنه تعهد، في الوقت نفسه، بتقديم الدعم الكامل لمحور المقاومة

وظهر عرض رمزي لهذا التناقض في العام الماضي عندما قام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بزيارة طهران، حين كاد المؤتمر الصحافي مع نظيره الإيراني أن يُلغى لأن فيصل رفض الوقوف تحت صورة قاسم سليماني الذي كان ينسق عمليات "محور المقاومة" لسنوات، بصفته رئيس العمليات الخارجية لقوات "الحرس الثوري" الإيراني، ومن بين تلك العمليات، حروب هذه القوات الطائفية في سوريا. واضطر الجانب الإيراني إلى تغيير القاعة بشكل مهين كي ينعقد المؤتمر الصحافي وتسير الأمور على خير. لكن تغيير القاعة هو الحدّ الممكن من التنازلات التي يقدمها النظام الإيراني دون أن يتخلى عن معتقداته الأساسية أبدا.
وحقيقة أن عراقجي وجد نفسه وزيرا للخارجية تدل على أن المرشد الإيراني علي خامنئي يميل إلى تقديم بعض التنازلات. وإلا لماذا يسمح لبزشكيان بالترشح في الانتخابات الرئاسية أساسا؟ في الواقع، يبدو أن مؤسسة النظام تريد الابتعاد عن المتشددين جدا الذين سيطروا على السياسة في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي قبل وفاته بشكل مفاجئ في حادث تحطم مروحية في وقت سابق من هذا العام وتسببوا في كثير من الأضرار للبلاد. من الواضح أن آية الله خامنئي كان قلقا بخصوص عزلة النظام المتزايدة وأراد إيجاد بعض المساحة للتنفس. ويبقى السؤال: إلى أي مدى ستتغير إيران؟
في تحديده لأجندته في السياسة الخارجية، أكد عراقجي أن إيران ستواصل دعم محور المقاومة، وذكر في خطابه البرلماني أن ذلك الهدف كان "على رأس جدول أعمالنا". كما اعترف أن عداوة إيران للولايات المتحدة ستستمر وأكد أن إدارته ستتبنى نهج "إدارة الصراع" مع الولايات المتحدة. أما بالنسبة للدول الأوروبية فقد طالبها بإصلاح سلوكها "الخاطئ والعدائي" تجاه طهران، الأمر الذي يمكن أن يؤدي برأيه إلى علاقات جيدة بعد ذلك. وأوضح أيضا أن أولوية السياسة الخارجية لحكومته ستكون مع الصين وروسيا و"الدول الأخرى التي وقفت معنا في الأوقات الصعبة الناتجة عن العقوبات" وكذلك مع القوى الناشئة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا.
وقال إن الحكومة ستحاول "تحييد" العقوبات ورفعها أيضا إن أمكن، وهي سياسة طهران منذ فترة طويلة. وأضاف أنه في محاولة حكومته لرفع العقوبات، فإنها لن تبدي "استعجالا" ولن "تقع في فخ" المفاوضات الأبدية. وكرد فعل في مواجهة المتشددين الذين انتقدوه بحدة لدوره في اتفاق 2015 النووي، دافع أيضا عن سجله الحافل مشيرا إلى أنه حتى رئيسي واصل المحادثات مع الولايات المتحدة و"لمرتين كان قريبا جدا من التوصل إلى اتفاق نهائي [لاستئناف الاتفاق النووي 2015] والذي لم يحدث لأسباب لا أعرفها".

رويترز
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقر الوزارة في طهران في 26 أغسطس

باختصار، على عكس ظريف، الذي غالبا ما كان يتصارع مع التناقض الكامن في قلب السياسة الخارجية الإيرانية، يبدو أن عراقجي مستسلم له. كما يبدو أنه يقر بعدم تمكن إيران من إقامة علاقات أفضل بكثير مع الغرب وأنه يتحتم عليها لذلك التعايش مع هذا الأمر. لكن المشكلة هي أن الكثير من وعود عراقجي لن تتحقق في المدى المنظور ما دامت إيران غير قادرة على رفع العقوبات وكسر العزلة المفروضة عليها. فهو يعد، على سبيل المثال، أن تكون إيران مركزا للطاقة والعبور كما يعد بدخول أسواق عالمية جديدة. لكن حتى تعامل إيران مع العراق المجاور تحول العقوبات دونه، فكيف هو الحال بشأن أي هدف آخر في إطار طموحاتها الأوسع. خلال الحملة الانتخابية، اشتكى بزشكيان أكثر من مرة من كل الحسومات التي كان على إيران تقديمها للصين مقابل نفطها، وكل ذلك بسبب العقوبات. كيف إذن يمكن لإيران أن تحقق أهدافها دون رفع العقوبات؟ 
وهناك أيضا حقيقة أن إيران تجد نفسها الآن في خطر جسيم بسبب احتمال نشوب الحرب، وهو نتيجة مباشرة لسياستها الداعية إلى تدمير دولة إسرائيل وتسليح الميليشيات التي شنت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل في العام الماضي. ومنذ عام 2018، أعلن خامنئي أن سياسة بلاده هي "لا حرب، ولا مفاوضات"، على الرغم من المشاركة في مفاوضات مستمرة مع الولايات المتحدة وإن كانت سرية. ويعلم الخبراء أن هذه السياسة لا يمكن الدفاع عنها كما لا يمكنها الاستمرار، وإذا أرادت إيران تجنب الحرب، فعليها أن تختار طريق الدبلوماسية والتفاوض. وهذا يعني التوصل إلى تفاهم حول دورها المُزعزع للاستقرار في المنطقة.
إن أحد الأسئلة الكبرى بالنسبة للرئيس بزشكيان هو البلد الذي سيختاره في أول رحلة خارجية له. ويتحدث أنصار المصالحة الإقليمية عن الرياض كوجهة محتملة. وهناك احتمال آخر في أن ينتظر بزشكيان حتى أكتوبر كي يسافر إلى قازان في روسيا لحضور قمة مجموعة "البريكس" التي انضمت إليها إيران في وقت سابق من هذا العام. وقد تتضمن الرحلة توقيع اتفاقية استراتيجية طويلة الأجل مع موسكو. لكن بعض الخبراء الإيرانيين، ومن بينهم السفير الإيراني السابق لدى اليونان وقبرص، يحثون بزشكيان على تجنب القيام برحلته الخارجية إلى مدينة ليست بعاصمة، والاكتفاء بإرسال عراقجي أو نائب الرئيس محمد رضا عارف.

على عكس ظريف، الذي غالبا ما كان يتصارع مع التناقض الكامن في قلب السياسة الخارجية الإيرانية، يبدو أن عراقجي مستسلم لهذا التناقض

وفي النهاية يمكننا القول إنه أيا كانت وجهة الرئيس الإيراني، فستظل تناقضات السياسة الخارجية الإيرانية تراوح مكانها، طالما لم تحسم طهران أمرها وتقرر ما إذا كانت تريد السعي لتحقيق مصالحها الوطنية أو تريد أن تكون حاضنة لقضية عالمية.

font change

مقالات ذات صلة