في حوار شيّق بهذا العنوان، كان المفكر الفرنسي ميشال فوكو حاول أن يبين كيف "تخلص" من أنواع معيّنة من الخطاب التي كانت فرضت سيادتها على الثقافة الأوروبية. وقبل أن يقوم بذلك، يبدأ بتحليل هذه الأشكال من الخطاب فيقول: "لم نقم أبدا بالتحليل الحقيقي لكون بعض الخطابات، وأعني الخطاب الأدبي، والخطاب الفلسفي، عرفت نوعا من القداسة، وأنيطت بوظيفة خاصة، وهذا من بين الكتلة الكبيرة من الأشياء التي تُقال، ومن بين مجموعة الخطابات التي تصدر هنا وهناك. بالفعل، يبدو أنه تمّ تقليديا تشغيل الخطابات الأدبية أو الفلسفية كبدائل، أو كغلاف عام لجميع الخطابات الأخرى. فكان عليها أن تُمثل باقي أنواع الخطاب" وأن تقمعها بمعنى ما.
ما سيسعى إليه صاحب "نظام الخطاب" هو "فسح المجال لظهور جميع الخطابات غير الأدبية، أو شبه الأدبية، التي تمكّنت بالفعل من التكوّن في فترة معيّنة مستبعدا هذه الخطابات ذات الحظوة. فكان عليه، من جهة، أن يطرح في صددها السؤال: "ما هي بالضبط هذه النشاطات التي تتعلق بتداول السرديات والقصائد والقصص... في مجتمع ما". ومن جهة أخرى: "يجب علينا أيضا تحليل عملية ثانية: من بين كل هذه الخطابات، ما الذي يجعل عددا منها مقدّسا يبدأ في العمل كـ"أدب"؟ ثم تُستوعب فورا داخل مؤسسة كانت في الأصل مختلفة تماما، وأعني المؤسسة الجامعية. الآن، بدأت هذه المؤسسة تتماهى مع المؤسسة الأدبية وتبتلعها.
وبالفعل، كانت الجامعة في القرن التاسع عشر هي "العنصر الذي تكوّن داخله الأدب الكلاسيكي، الذي لم يكن، بحكم تعريفه، أدبا معاصرا، بل كان يُعتبر في الوقت نفسه الأساس الوحيد للأدب المعاصر وكناقد لهذا الأدب. ومن هنا تولّدت لعبة شديدة الغرابة، في القرن التاسع عشر الأوروبي، بين الأدب والجامعة، بين الكاتب والأكاديمي"، وشيئا فشيئا، مالت المؤسستان، اللتان كانتا في الواقع، من وراء ما يبدو خصاما، توأمين عميقين، مالتا شيئا فشيئا إلى الاندماج التامّ. "فنحن على علم تامّ بأن الأدب الذي ينعت بالطليعي لا يقرأه اليوم إلا الأكاديميون. كما نعلم جيدا أن كاتبا تجاوز الثلاثين من العمر يجمع حوله طلابا يكتبون أطروحاتهم عن أعماله. ونعلم كذلك أن معظم الكتّاب يعيشون من خلال تقديم الدروس والعمل كأكاديميين. نتيجة كل هذا "أن الأدب عمل كأدب بفضل لعبة الانتقاء والتقديس والتقييم المؤسسي التي لعبت الجامعة فيها دور المشغّل والمستقبِل في آن واحد".
لعبت أسماء بارزة دورا حاسما في القطْع مع عدد من الأساطير، بما في ذلك أسطورة الطابع التعبيري للأدب
لن تأخذ أشكال الخطاب هذه، التي ساندتها المؤسسة الجامعية، في مراجعة وضعها إلا من خارج المؤسسات الجامعية التقليدية. وهنا لعبت أسماء بارزة دورا حاسما في القطْع مع عدد من الأساطير، بما في ذلك أسطورة الطابع التعبيري للأدب. كان من المهم جدا وضع هذا المبدأ الكبير الذي ينصّ على أن الأدب لا يتعامل إلا مع نفسه، ولا يتعدى نفسه، ولا يعبّر عن شيء خارج عنه، موضعَ سؤال. "ليس بكبير أهمية هنا أن نشير إلى بلانشو أو إلى بارت. ما ينبغي الإلحاح عليه هو أهمية هذا المبدأ: أن الأدب لا يتعدّى نفسه. كانت هذه بالفعل الخطوة الأولى التي بفضلها تمكّن الناس من التخلّص من فكرة أن الأدب كان محل جميع التجاوزات، أو النقطة التي تنتهي عندها جميع الانتقالات، تعبيرا عن الكليات... ولكن يبدو لي أن هذه لم تكن سوى خطوة أولى فقط".
في الواقع، كانت منهجية بلانشو وبارت تميل إلى نزع القداسة عن الأدب، من خلال قطع الروابط التي وضعته موضع التعبير المطلق. "كانت هذه القطيعة تتضمن أن الحركة التالية ستكون نزع القداسة عنه بشكل كامل، ومحاولة رؤية كيف يمكن أن تتشكل هذه المنطقة الخاصة من اللغة، في كتلة ما يقال بشكل عام، في لحظة معينة، بطريقة معينة، دون أن يُطلب منها أن تحمل قرارات الثقافة، ولكن يجب أن يُطلب منها كيف يمكن أن تقرّر الثقافة أن تمنحها هذه المكانة الفريدة والغريبة".
المسألة التي "سيستفيد" منها الدرس الفلسفي انطلاقا مما يقوله فوكو هنا عن الخطاب الأدبي، هي أن ليست هناك خطابات تحمل قدسيتها في ذاتها، ولا وجود لخطابات تحمل "الحقيقة". هناك فقط خطابات يمكن تحديدها تاريخيا. إنها تولِّد، بالطبع، "مفعولات الحقيقة"، من خلال تحديد ما هو ممكن التفكير فيه، وما ليس قابلا لذلك في عصر معيّن. ولكن في حد ذاتها، الخطابات لا قيمة لها. نحن نواجه نسبية مطلقة. هذا ليس تاريخا، بل فلسفة –إنها فلسفة نيتشه. حاول فوكو، بطرُق عديدة، الإجابة عن هذا السؤال: ماذا نفعل بعد نيتشه؟ بمعنى، بعد التدمير النهائي لفكرة الحقيقة ذاتها. لا يتبقى، بعد الآن، إلا المنظور التاريخي.
وهكذا، فما قيل بالنسبة إلى الخطاب الأدبي، سينطبق على الخطاب الفلسفي، وهنا تبرز أهمية نيتشه بالنسبة إلى فوكو، فنيتشه يمثل "الحافة الخارجية". يمكن، في طبيعة الحال، العثور على مسار كامل من الفلسفة الغربية لدى نيتشه: أفلاطون، سبينوزا، فلاسفة القرن الثامن عشر، هيغل... كل هذا يمرّ عبر نيتشه. "ومع ذلك، بالنسبة إلى الفلسفة، هناك بدائية وخارجية ونوع من الريفية الجبلية لدى نيتشه، تمكّنه، بضربة كتف واحدة، وبدون أن يكون ذلك في أيّ حال من الأحوال مضحكا، من أن يقول بقوة لا يمكن تجنّبها: "هيا، كل هذا هراء..."
هذا الذهاب والإياب بين جنبات الفلسفة نفسها جعلا الحدود بين الفلسفي وغير الفلسفي قابلة للاختراق، وأظهرا بالتالي أنها بلا جدوى
التخلي عن الفلسفة يستلزم بالضرورة مثل هذه اللامبالاة. ليس بالبقاء في الفلسفة، "لا يمكن الخروج من الفلسفة باعتماد خطابها الخاص، لا بتطهيرها إلى أقصى حد، ولا بتجنبها. كلا. وإنما بمعارضتها بنوع من البلاهة المندهشة ونوع من البهجة، نوع من الضحك المنفجر غير المفهوم والذي يَفهم في نهاية الأمر، أو على الأقل، يَهدم. نعم... إنه يهدم بدلا من أن يَفهم".
"بالنسبة إليّ، كان نيتشه، وباتاي، وبلانشو، وكلوسوفسكي طرقا للخروج من الفلسفة. كان هناك في عنف باتاي، وفي نوع من الرقة الماكرة والقلقة لدى بلانشو، وفي دوامات كلوسوفسكي، شيء ما يبدأ من الفلسفة، ويضعها موضع شكّ وتساؤل، ثم يخرج منها، ويعود إليها... شيء ما يشبه النظرية". هذا الذهاب والإياب بين جنبات الفلسفة نفسها جعلا الحدود بين الفلسفي وغير الفلسفي قابلة للاختراق، وأظهرا بالتالي أنها بلا جدوى.