هل يجب أن نتجاهل ذواتنا في سبيل تحقيق العدالة التي نؤمن بها؟ ألا يقتضي شكر الله والتعرف اليه اكتشاف الجمال أولا، ثم زرعه في حياتنا حتى وإن بدا في ظاهره عكس ما ترتضيه عقائدنا التي توارثناها جيلا بعد جيل؟ أسئلة يطرحها السويسري ذو الأصول التركية ميتين أرديتي في روايته الأحدث، "جزيرة الفرنسية" الصادرة عن "دار غراسي" الفرنسية، الذي ذاع صيته خاصة بعد روايته "الطفل الذي يقيس العالم" الصادرة عام 2017 والتي حصدت جوائز أدبية عدة.
في هذا العمل، يعود أرديتي إلى اليونان، الجغرافيا التي صنعت مجده الأدبي، على اعتبار أنها المكان المفضل لأحداث أشهر رواياته بما فيها "الطفل الذي يقيس العالم"، حيث نجده يدخل بقارئه عوالم جزيرة القديس سبيريدون اليونانية التي تبدو مكانا خياليا بسبب اسمها المنسوب إلى أسقف ثريميتوس العجائبي رمز الكرم والجود، وبسبب ما يحيط بها من صمت وعمى جعلها خارجة الخريطة اليونانية المعروفة، لولا ما أضفى عليها أرديتي من سرد وصفي دقيق، جعلها تشبه غيرها من جزر يونانية نائية، كادت أن تقفر بداية خمسينات القرن الماضي لقساوة الحياة فيها وهيمنة الفكر الديني المحافظ الذي ازداد سطوة في تلك الحقبة من تاريخ اليونان المتسم بالاضطراب والانغلاق على الذات وتردّي الوضع الاقتصادي.
سلطة الدير
هذا كله منح دير هذه الجزيرة سلطة جعلت الكثيرين يعتقدون أنه ملاذ يمنع الفاقة عنهم ويحميهم من عواصف الحياة وجشع البشر المتعطشين للسلطة، على الأقل يسمح لهم بملء بطونهم الخاوية وبسقف ومكان يؤوون إليه ليلا. من بين هؤلاء كليو التي التحقت به وهي في سنّ المراهقة وفي اعتقادها أنها بذلك تفرّ من حياة البؤس والمجاعة، التي سادت اليونان إثر الحرب الأهلية التي عرفتها طيلة أربع سنوات ابتداء من عام 1946. حرب لم تضع أوزارها إلا بعد انتصار الجيش اليوناني بدعم البريطانيين والولايات المتحدة، على الجيش اليوناني الديمقراطي (الجناح العسكري للحزب الشيوعي) مدعوما من يوغوسلافيا وألبانيا وبلغاريا. لكن كليو على عكس ما تصوّرت، وجدت نفسها تعيش أكثر أعوام حياتها قسوة، بسبب ما ستُضطر إليه لاحقا من صمت إجباري وإذلال، باسم الصرامة الدينية وتعذيب الانا من خلال طقوس جلد الذات وغيرها، مما اعتُمد كنائسيا لبلوغ ما ستُخبر على أنه الخلاص. عالم ما كانت كليو لتكتشف سواه أو تدرك لا جدواه وهشاشته، لولا وقوع أحداث سمحت لها بالوقوف على شرفة الحياة، لتكتشف عالما مختلفا ومغايرا عن ذلك الذي عرفته لسنين طوال.