نحو شهرين على الانتخابات الرئاسية الأميركية، الأكثر سخونة وإثارة للجدل واستثنائية في تاريخ أميركا.. "معركة" جمعت سلسلة أحداث غيرت مسارها بشكل جذري وتجري في ظل عالم على شفير تهديدات نووية وحروب تجارية ضارية وحروب شاملة، لا يتوقف فيها عداد الضحايا ولا المسيرات ولا المجاعات..
ولأنه لا يخفى على أحد أن الانتخابات الأميركية وسياسة الرئيس الذي سيشغل ذلك الكرسي الشهير في المكتب البيضاوي، على علاقة وثيقة بكل أزمة في العالم، وسيكون له انعكاسات على معظم السياسات العالمية بحسب عقيدة كل حزب وإدارته للأولويات بشأنها، حاورتُ روبرت فورد، السفير والمبعوث الأميركي السابق لسوريا والعراق والجزائر في لقاء مطول باللغة العربية، ضمن برنامج "حديث المجلة"، حول الانتخابات التي تأتي في ظل اصطفاف أميركي غير مسبوق وتحديات في ملفات حساسة كالهجرة والتضخم والإجهاض التي سيُسمع صداها عاليا في صناديق الاقتراع في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
الانتخابات الأميركية التي تعتبر محط أنظار العالم بأسره، تأتي بعد أن شهد شهر يوليو/تموز 2024 سلسلة أحداث استثنائية من محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترمب، إلى انسحاب الرئيس الحالي جو بايدن من السباق الرئاسي، وأخيرا ترشيح كامالا هاريس، التي كانت تُعرف بـ"ظل الرئيس"، عن الحزب الديمقراطي، وقد تصبح أول رئيسة لأميركا من أصول هندية في حال فازت بالانتخابات الرئاسية الأميركية.
العالم وحروبه، السياسية والثقافية والاقتصادية الممتدة، لن يكون لها تأثير على الانتخابات فحسب، بل على السنوات الأربع لولاية أي من المرشحين... فصراعات اليوم لا تشبه ما شهده بايدن في ولايته الأولى أو ما ستشهده هاريس، وستفرض نفسها على وحدة صف الحزب عينه الذي بدأ يواجه نزاعات حول تغييرات عقيدته، ونشهد الحزب الديمقراطي- اليساري يقترب أكثر فأكثر من الوسط، وتصريحات كامالا وكلمات مؤتمر حزبها شاهدان على ذلك. وأيضا، عالم اليوم المتغير والمشتعل لا يشبه أبدا ما شهده ترمب في ولايته الأولى، لا خارجيا ولا داخليا، ومن المؤكد أنه سيدفع لتحديات ومعارك من نوع آخر قد تكون مشاهد اقتحام مبنى الكونغرس أبسطها.
سألتُ فورد عن "الترمبية" واختلاف ترمب الأول عن ترمب الثاني، والصورة الوردية الإنسانية التي سعى حزبه لرسمها له في مؤتمر الحزب الجمهوري، وبرأيه "ترمب لا يتغير، وهدفه الأساسي الاستفادة من أي موقف لصالحه". أما بخصوص شخصية وسياسة كامالا هاريس، التي كانت تُعتبر لفترة طويلة أحد أهم أركان إدارة بايدن، الآن هي في موقع القيادة، وفي مواجهة ترمب في معركة انتخابية شرسة، فتعتبر بحسب فورد مزيجا من بايدن وأوباما، وإن كانت تهتم أكثر بقضايا حقوق الإنسان، أما بخصوص شخصيتها فـ"تعاملها الصعب مع مساعديها، دفع الكثير منهم إلى الاستقالة".
وتطرق فورد إلى سياسات ترمب وهاريس المتوقعة في الشرق الأوسط والقضايا العالمية الساخنة، التي ستكون حاضرة بقوة أيضا في النقاشات الانتخابية وستؤثر على خيارات الناخبين، من حرب غزة، إلى حرب أوكرانيا وروسيا ومستقبل "الناتو"، والحل في سوريا والعلاقات مع إيران ومصير الاتفاق النووي.
ناقشت مع الدبلوماسي الأميركي ملف الحرب الممتدة في المنطقة... رقعة الشطرنج المشتعلة، التي تعيش على وقع مسيرة هنا واغتيال من هناك. ورأى فورد أن "إيران في موقف ضعيف حاليا وتخشى المغامرة وتتردد في توجيه ضربات على إسرائيل، التي تتمتع بتفوق استخباري كبير وتتعاون مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية لصد أي هجمات".
أما بخصوص حرب غزة، فاستبعد توقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة قريبا ورأى أنها "قد تستمر إلى أجل غير مسمى، مما يجعل مستقبل غزة غامضا".
وقدم فورد مراجعة للدور الأميركي في المنطقة، واصفا الحرب في سوريا والعراق وليبيا بالفشل الذريع ومن أسوأ القرارات في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية. وخص "المجلة" بروايتين حصريتين لكواليس دعوة أوباما للأسد بالتنحي، واجتماعه بأوباما في البيت الأبيض والسجال بينهما حول السياسة الأميركية في سوريا، إضافة إلى قصة شخصية تعود إلى الثمانينات عاشها مع جنود سوريين في طريقهم من دمشق إلى تدمر... تركت أثرها عليه ولخصت رأيه حول "عدم فهم الأميركيين لشعوب الشرق الأوسط".
وفيما يلي نص المقابلة كاملة:
* رأينا في فيلم "الحرب الأهلية" أميركا أخرى، دمار وميليشيات وقتل على الهوية، وعسكري محلي يسأل الصحافيين: أي أميركيين أنتم؟ كم يبدو ما شاهدناه في الفيلم قريبا من واقع أميركا اليوم؟ ومن برأيك من المرشحين للانتخابات الرئاسية يمكن أن يهدئ الشارع الأميركي؟
- مع الأسف الشديد، أميركا بلد منقسم جدا. الانقسامات تظهر في جوانب متعددة، انقسام طبقي وعرقي وثقافي. الفيلم كان مخيفا جدا، ويؤكد على الانقسامات التي كنت أتحدث عنها، ويصور مشاهد القتل على الهوية، وهو شيء غير معروف تقريبا في الثقافة والتاريخ الأميركيين. في الفيلم، رأينا أحد أفراد ميليشيا غير معروفة يسأل بعض الصحافيين الذين تم القبض عليهم: "من أنتم؟" وكان السؤال يقصد به: "من أين أنتم؟" أي: "هل أنتم أميركيون أصليون أم مهاجرون؟". السؤال كان يطرح بصفة سياسية: "هل أنت مع اليسار أم اليمين؟". هذا السؤال مألوف لدى الناس الذين عاشوا خلال أيام الحرب الأهلية في لبنان أو العراق أو حتى في الجزائر أو سوريا، لكن بالنسبة للأميركيين، هذا شيء جديد تماما على العقلية الأميركية.
* كتبت في "المجلة" عن "الترمبية" وعن هاريس. برأيك، هل يختلف "ترمب الثاني" عن "ترمب الأول"؟
- بالنسبة لترمب، شخصيته لم تتغير. أما بالنسبة لفريقه، فلديهم تجربة أكبر بكثير مقارنة بما كانوا عليه في سنة 2016. هذا يعني أنهم استفادوا من دروس تجربة عهد ترمب الأول، وبدأوا في تخطيط إطار كامل للسياسات الداخلية والخارجية. هذه الخطط لم تكن موجودة أبدا في بداية عهد ترمب الأول، لكن هذه المرة هم جاهزون. جاهزون منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة في حال فوزه. في عام 2017، لم يكن لدى دونالد ترمب وفريقه الصغير فكرة عن الأشخاص المناسبين لشغل مناصب حساسة داخل الحكومة الأميركية، وكانت عملية التعيينات بطيئة جدا. لكن هذه المرة لديهم قائمة بآلاف الأسماء المناسبة للتعيينات في مناصب مهمة في الحكومة.
* ماذا عن الصورة التي رُسمت لترمب بعد مؤتمر الحزب الجمهوري: ترمب الأب والجد، والناجي من الاغتيال؟ هل ستنعكس هذه الصورة على أي تغييرات في شخصيته وقراراته وطريقة اتخاذها؟
- أعتقد أن ترمب لديه هدف واحد في حياته، وهو كيفية الاستفادة ماليا وسياسيا واجتماعيا من أي ظرف. فأولويته هي توسيع نفوذه في العالم، وخصوصا في أميركا. أما بالنسبة لانفتاحه على الأفكار الجديدة؟ فلا أعتقد ذلك، فهو رجل واقعي، يهتم دائما وأبدا بمصلحته على المدى القصير. في الوقت نفسه، هو كسول إلى حد ما، ولا يحب قراءة التقارير الطويلة، ويفضل التعامل مع الناس شفهيا. كما أنه متسرع في اتخاذ القرارات ويتخذها حسب مزاجه العفوي، ولا يفكر بشكل عميق.
* ماذا عن هاريس؟
- هاريس، إلى حد ما، شخصيتها غير معروفة لدى كثير من الأميركيين، على الرغم من أنها كانت عضوا في مجلس الشيوخ وكانت أيضا نائبة الرئيس لمدة أربع سنوات. ما نعرفه عنها هو أنها ذكية جدا، وفي الوقت نفسه، تتعاطف مع الناس بطريقة لا يفعلها دونالد ترمب. من جهة أخرى، وبحسب كل التقارير التي سمعتها، وما قاله أصدقاء لي عملوا معها في البيت الأبيض، فإنها صعبة قليلا مع الفريق الذي يعمل معها. ورغم اهتمامها بقراءة التقارير المكتوبة، فإنها بسبب انشغالها الكبير، أحيانا لا تأخذ الوقت الكافي لاستيعاب كل المعطيات في التقارير، وقد تكون قاسية على مساعديها لعدم فهمها ما جاء في التقارير. ومن المعروف أن الكثير منهم استقالوا لأنهم وجدوا أن العمل معها كان صعبا جدا.
* في السياسة، هل هي "بايدن الثاني" أم "أوباما الثالث" برأيك؟
- هاريس، إلى حد كبير، تُعتبر رمزا للحزب الديمقراطي، ولديها أفكار مشابهة لأفكار جو بايدن، وأخرى تشبه أفكار باراك أوباما. صراحةً، لا يوجد فرق كبير بين أفكار جو بايدن وأفكار باراك أوباما. على سبيل المثال، لا نجد فرقا كبيرا بين الاثنين في السياسة الخارجية. أما بخصوص شخصية كل منهما، ما يمكنني قوله هو أن باراك أوباما لم يكن يهتم كثيرا، على سبيل المثال، بقضية حقوق الإنسان في الملفات الخارجية، وكان يركز أكثر على توازن القوى في السياسة الخارجية. ومن جهة أخرى، أعتقد أن كامالا هاريس تتحدث بشكل مختلف عن جو بايدن بخصوص المعاناة في غزة والشعب الفلسطيني، لكن، أؤكد وأشدد على هذه النقطة، أنه من غير الواضح ما إذا كانت هاريس ستتخذ قرارات نحو وقف إرسال أسلحة إلى إسرائيل، على الرغم من اهتمامها بحقوق الإنسان بشكل مبدئي.
* استكمالا للنقاش حول غزة تحديدا. الشرق الأوسط هو رقعة شطرنج مشتعلة، والمنطقة على وقع مسيرة هنا واغتيال هناك. ما هو السيناريو الأقرب؟
- برأيي الشخصي، إيران في موقف ضعف. كيف؟ إسرائيل لديها تفوق استخباري واضح جدا، وفي الوقت نفسه، تتعاون إسرائيل مع أميركا وبعض الدول العربية، ولديهم القدرة على إسقاط الكثير من الصواريخ الإيرانية التي قد تطلقها الحكومة الإيرانية باتجاه إسرائيل. رأينا ذلك في شهر أبريلب/نيسان الماضي. السؤال هنا: هل طهران في موقفها الضعيف جاهزة لمغامرة كبيرة؟ طبعا قد تطلق هجوما صاروخيا بآلاف الصواريخ، لكن رد الفعل من إسرائيل ومن الولايات المتحدة سيكون ضد أهداف عسكرية واقتصادية إيرانية ولبنانية أيضا. وبالتالي، في نهاية هذا التبادل للهجمات، هل ستكون إيران في موقف أقوى أم أضعف؟ يبدو أنها تخشى التصعيد في المنطقة.
* في ظل كل ذلك، ما هو السيناريو الأقرب لليوم التالي في غزة؟ هل يمكن تحقيق حلم حل الدولتين؟ وبين ترمب وهاريس، من هو الأقرب لتحقيق أو تنفيذ هذا الحل؟
- بالنسبة لمستقبل غزة، هو مستقبل مجهول. قد نصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت، لمدة شهر أو ستة أشهر، لكنني لا أعتقد أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ستتوقف. وفي كل مرة تحاول "حماس" العودة إلى المناطق التي احتلتها إسرائيل ثم انسحبت منها. لذلك أعتقد أن إسرائيل ستستمر في ضرباتها ضد "حماس" إلى الأبد تقريبا. مستقبل غزة فعلا مجهول.