"قراءة هرتزل في بيروت": مركز الأبحاث المنهوب

رحلة في مساعي "منظمة التحرير" لفهم العقلية الإسرائيلية

Handout/Jonathan Marc Gribetz
Handout/Jonathan Marc Gribetz
الباحث الأميركي جوناثان غريبيتز

"قراءة هرتزل في بيروت": مركز الأبحاث المنهوب

يتشابه عنوان كتاب الباحث الأميركي جوناثان مارك غريبيتز، "قراءة هرتزل في بيروت: سعي منظمة التحرير لمعرفة العدو" والصادر بالإنكليزية عن "منشورات جامعة برينستون" (2024)، مع عنوان كتاب آذر نفيسي، "أن تقرأ لوليتا في طهران"، ولكن الأخير يدعو إلى مغامرة قراءة روائع فلاديمير نابوكوف وهنري جيمس وجين أوستن بعيدا من عيون الرقيب، أما كتاب غريبيتز فيتتبّع رحلة أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وكيف قرأ مناضلو وأكاديميو تلك الحقبة عدوهم.

زار غريبيتز، البروفسور اليهودي الأميركي المختص بدراسات الشرق الأدنى، القدس ورام الله وبرلين، وأجرى العديد من المقابلات مع فلسطينيين وإسرائيليين ولبنانيين وسوريين، واطلع على الأرشيف الإسرائيلي وعلى الوثائق في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وكل ما كان يدور في رأسه البحث عن سبب اهتمام منظمة التحرير الفلسطينية بالتاريخ الصهيوني العتيق. ولماذا انبرى مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية لترجمة الأعمال الفكرية الصهيونية المبكرة؟ وكيف كان يعمل المركز وما الأدوات التي كانت متاحة لديه؟ ولماذا دعمته منظمة التحرير؟ وهل أعادت إسرائيل هذا الأرشيف الذي نهبه الجيش الإسرائيلي من المركز عندما اجتاح بيروت؟

الحاجة إلى التوثيق

قسَّمَ غريبيتز الكتاب ثلاثة أجزاء عنون أولها بـ"مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية بين الأكاديميا والسياسة"، تساءل فيه حول حاجة المنظمة إلى مركز الأبحاث، وانطلق بالتفصيل ليتحدّث عن إقامة دولة إسرائيل نفسها وتشكيل "فتح" والمنظمة أيضا لاحقا، وركّز على توجّه المنظمة نحو عدم ترك القضية الفلسطينية ودراسة العدو على كاهل الباحثين المتعاطفين مع القضية وحسب.

تأسّس "مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية" في بيروت عام 1965، ليكون كما وصفه الشقيري "عقل المنظمة"

 وعندما رفضت مؤسسة الدراسات الفلسطينية الانضواء تحت جناح المنظمة للحفاظ على استقلاليتها، تأسّس على يدي الأكاديمي الفلسطيني فايز صايغ "مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية" في بيروت في عام 1965، ليكون كما وصفه أحمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير، "عقل المنظمة".

ترجمَتْ هلدا شعبان صايغ مع المركز في عام 1969  أجزاء من يوميات تيودور هرتزل إلى العربية، ونشر المركز أيضا الكتب الأكاديمية المتعلقة بالسياحة في إسرائيل والبطالة هناك، وتشكيل القرى التعاونية في الأراضي المحتلة وغيرها الكثير من المنشورات المهمة والنزيهة حول إسرائيل، رغم أنها كانت جميعها تحت مظلة مشروع "اعرف عدوك".

نشر المركز أيضا أعمالا شعرية ومصوّرة وأبحاثا وأوراقا علمية لمجموعة من الفلسطينيين الراحلين، مثل أوراق عارف العارف وعوني عبد الهادي، والكتّاب الفلسطينيين المعروفين والمؤثرين في العالم العربي مثل محمود درويش.

وفي عام 1971أصدر المركز المجلة الدورية "شؤون فلسطينية" التي أريد لها أن تكون منتدى لمختلف الأفكار والآراء والاتجاهات وأن تهتم بالشؤون الفلسطينية ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد انضم درويش إلى أسرة المجلة في 1973وخَلَفَ صايغ في رئاسة تحريرها في عام 1977وعمل في إدارة تحريرها إلياس خوري وفيصل حوراني.

حققت المجلة انتشارا واسعا في العالم العربي، أما أبحاث المركز ومنشوراته المتخصصة الأخرى فشملت القراء الفلسطينيين والعرب وصناع القرار في الغرب، ولكنَّ أهمَّ قراء إنتاجات المركز، وفقا لغريبيتز، كانوا المحللين في المخابرات الإسرائيلية.

وقد صدر منعٌ في الأراضي المحتلة في عام 1977من الرقيب الرسمي في الجيش الإسرائيلي على العديد من المنشورات العربية ومنها منشورات المركز، ومن ضمنها كتب مثل "يوميات هرتزل" و"الدولة والدين في إسرائيل" و"إسرائيل الكبرى" و"أضواء على الإعلام الإسرائيلي" وغيرها الكثير، وهكذا لم يفاجأ الإسرائيليون بمثل هذه العناوين عندما نهبوا المركز أثناء الاجتياح.

اعرف عدوك

عنون غريبيتز الجزء الثاني بـ"دراسة العدو"، وهو الهدف الرئيس من مركز الأبحاث، حيث نشر المركز دراسات مطولة حول الكيبوتزات وحزب "حيروت" الذي كان على رأسه مناحيم بيغن، وحزب "ماباي" الذي أسسه ديفيد بن غوريون، و"الهستدروت" (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية).

AFP
مناحيم بيغن، قائد منظمة إرغون، وهي جماعة يهودية متطرفة صغيرة في صورة التقطت عام 1948 في مكان ما في إسرائيل وهو يخاطب نشطاء منظمته العسكرية

وتعمّقتْ دراسات المركز وأوراقه في أصول الصهيونية والكتابات المؤسسة لها، ونشر المركز الكتاب الشامل، "الفكرة الصهيونية: النصوص الأساسية"، حول النصوص الكلاسيكية باللغة الإنكليزية اعتبارا من الحاخام يهودا القالي (ت: 1878) حتى كتابات بن غوريون.

يلاحظ غريبيتز فكرة غريبة، يمكن الاشتباك والسجال معها بالطبع، تقول إن الخلفية المسيحية للشخصيات الأهم في المركز دفعت في اتجاه التركيز على الأصول الدينية للفكرة الصهيونية، على عكس الدراسات الأكاديمية الأميركية والأوروبية.

فصّلَ غريبيتز في أفكار كتاب "التلمود والصهيونية" لأسعد رزوق عام 1970، الذي تحدث حول رفض معاداة السامية باسم تحرير فلسطين، حيث رأى رزوق أن العرب تبنوا الأفكار الأوروبية التقليدية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة التلمود، مما أضر بكل تأكيد بقضية فلسطين.

وخصص غريبيتز عدة صفحات لدراسة المجلس الأميركي لليهودية (تأسس 1942)، المنظمة الخاصة باليهود الأميركيين الذي لا يؤمنون بقومية اليهود، بل بكونهم دينا، والمعارضين تاريخيا لقيام دولة إسرائيل.

نشر المركز أيضا العديد من الدراسات حول المرأة اليهودية في إسرائيل وعن التاريخ الزائف حول العرب الذي يعلمونه لأفراد الجيش الإسرائيلي وللمواطنين لتشكيل إيديولوجيا يهودية قومية توسّعية، في ما يشكّل الجانب المقابل لدى الإسرائيليين لفكرة "اعرف عدوك" والتي لا مانع ألا تكون نزيهة.

ناقش غريبيتز مسألة اليهود في الدول العربية وسؤال العنصرية، من خلال الفكرة التي طرحها الصهاينة حول وجوب إنقاذ ونجدة هؤلاء اليهود من أوضاعهم المزرية، مركزا على كتاب "المرأة اليهودية في فلسطين المحتلة" (1968) لأديب قعوار. وقد ركز هذا الكتاب وغيره العديد من الدراسات التي نشرها المركز على العنصرية الصهيونية التي تنقسم شقين: العنصرية ضد غير اليهود، والعنصرية ضد اليهود غير الأوروبيين، وقد رأى غريبيتز أن هذه الرؤية تختلف مع وجهة نظر المنظمة التي تقول إن الصهيونية تنظر إلى اليهود كعرق بذاته.

لاحظ غريبيتز فكرة غريبة تقول إن الخلفية المسيحية للشخصيات الأهم في المركز دفعت في اتجاه التركيز على الأصول الدينية للفكرة الصهيونية

وأفرد غريبيتز فصلا لدور الإرهاب في تشكيل دولة إسرائيل وعدّدَ مجموعة الكتب التي نشرها المركز حول هذا الإرهاب التأسيسي والعصابات الصهيونية، وركز على كتاب "دور الإرهاب الصهيوني في تشكيل إسرائيل" (1969)، وأشار إلى تأثر الفلسطينيين بهذا العنف ومحاولة الرد عليه، بل ومشابهته أحيانا.

المركز الذي انتهى في تل أبيب

في الجزء الثالث من الكتاب وهو بعنوان "الاجتياح والمصادرة والعودة"، يتحدث غريبتز عن الغزو الإسرائيلي للبنان ودور المنظمة في الحياة العامة في بيروت، وعن طرق أفراد كتيبة من لواء جولاني بقيادة باروخ سبيغل الأبواب في منطقة الحمراء ببيروت بحثا عن أرشيف مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم اقتحام أعضاء وحدة AMShaT (وحدة جمع الوثائق والغنائم التقنية) ولم يتمكنوا خلال أيام من دراسة كل الأرشيف، فحمّلوا في شاحنات مكتبة المركز والأرشيف الورقي والمواد السمعية والبصرية الموجودة في المبنى وشحنوها إلى تل أبيب.

قال البروفسور ماتي ستينبرغ، المختص بالأفكار الوطنية الفلسطينية المعاصرة، والذي خدم في الجيش الإسرائيلي، وكان يرفع تقاريره إلى المخابرات في السبعينات والثمانينات، لجوناثان غيربيتز عندما قابله في القدس "إذا أردت معرفة التغيرات والاتجاهات الكبرى في تفكير منظمة التحرير الفلسطينية فعليك بمتابعة إصدارات مركز الأبحاث" حيث سنحت الفرصة أخيرا لستينبرغ لمعاينة هذا الأرشيف وهذه المواد مباشرة، بعدما أمضى أكثر من عقدين في متابعة إنتاجات المركز عن بعد.

وتوصل غيربيتز بعد عناء إلى التقارير والقوائم التي تتحدث عن معظم المواد التي صودرت من لبنان أثناء الاجتياح، ومنها بالإضافة إلى أرشيف المركز، وثائق "القطاع الغربي" (الضفة الغربية وقطاع غزة) ووثائق "مركز التخطيط" التابعين للمنظمة، وأعداد مجلة "الهدف" التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأكدت التقارير الاستخبارية أن معظم الوثائق التي حصلوا عليها لا تتضمن معلومات حساسة، ربما لأن المنظمة تخلصت من أي وثائق سرية قبل الاجتياح. وهذا ما أكده صبري جريس مدير المركز في مقابلة مع صالح القلاب بعد شهور من الاجتياح.

أما في مقابلة غريبتز مع جريس لاحقا في 2015  فتحدث جريس عن حقيبتين أخذهما بمفرده من المركز تضمنتا الكثير من المعلومات الحساسة وأرسلهما إلى مكان آخر "حيث يجب أن تكونا".

صدى عالمي

انتشرت أصداء نهب الإسرائيليين لمركز الأبحاث في الصحف العالمية، واعتبر إدوارد سعيد في مقال في صحيفة "نيويورك تايمز" في سبتمبر/ أيلول من عام الاجتياح، أن العدوان الإسرائيلي لا يتضمن القتل وحسب "بل الاعتداء على الثقافة الفلسطينية" وتدمير النسيج المكوِّن لهذا الشعب المناضل والمهجّر من أرضه، وقد ربطت العديد من التقارير الصحافية هذا العمل، بالإضافة إلى العنف، بعمليات النهب التي قام بها الجنود الإسرائيليون عند دهم البيوت والتي تضمنت سرقة أجهزة التلفاز والراديو والمجوهرات وغيرها.

أصدرت الأمانة العامة لمنظمة "يونسكو" في 22 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1982 بيانا حول استيلاء الإسرائيليين على أرشيف المركز، وعدّت الأمانة العامة هذا الفعل بمثابة "انتهاك خطير لحقوق الإنسان".

gettyimages
ياسر عرفات ومعاونوه العسكريون ينظرون إلى خريطة عسكرية في أحد المخابئ السرية في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية عام 1982

 وصدر عن "جمعية الأرشيفيين الأميركيين" مشروع قرار يدعو الحكومة الإسرائيلية الى الحفاظ على سجلات المركز، ويحثّ الحكومة الإسرائيلية على إتاحة إمكان الوصول إلى هذه السجلات على نحو محايد، وإعادة ما أخذه الإسرائيليون إلى أصحابه الحقيقيين. وبعد نقاش في البرلمان السويدي حول عملية الاستيلاء على الأرشيف، قال وزير الخارجية السويدي لينارت بودستروم إن هذا الفعل مناقض لمبادئ القانون الدولي، ودعت الحكومة السويدية الحكومة الإسرائيلية إلى القيام بكل الإجراءات الضرورية للتأكد من إعادة هذه الوثائق والمواد إلى الفلسطينيين ووجوب دفع تعويضات عن الخسائر المادية.

أنهى غريبتز كتابه بفصل حول عملية تبادل الأسرى والمكتبة والأرشيف، حيث أعيد الأرشيف إلى منظمة التحرير في نوفمبر/تشرين الثاني 1983بعدما بقي سنتين في حوزة الإسرائيليين.

ساد نقاش كبير بعد عودة الأرشيف إذا ما كان يمثل الأرشيف الحقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية نفسها، وإذا ما كانت إسرائيل أعادت كل ما أخذته من المركز. ويتحدث غيربيتز عن العديد من المجلات والوثائق الفلسطينية التي سمع بوجودها في مركز موشيه ديان وقسم الدراسات الأفريقية في جامعة تل أبيب والتي يعتقد الكثيرون أنها تعود الى أرشيف مركز الأبحاث التابع للمنظمة.

 يروي الكتاب كيف قام أفراد كتيبة من لواء جولاني بالبحث في منطقة الحمراء عن أرشيف مركز الأبحاث ثم مصادرته

استُعمل مصطلح Think Tankوفقا لموسوعة "بريتانيكا" كمصطلح عسكري خلال الحرب العالمية الثانية، ليدل على المكان الآمن حيث يمكن مناقشة الخطط العسكرية والاستراتيجيات، ولكن هذا المعنى العسكري قد تغير في الستينات ليتحول إلى المؤسسات غير الحكومية التي لا تهدف إلى الربح والتي تقدم الأبحاث الخاصة بالسياسات. غير أن الكثير من هذه المؤسسات بعد 11سبتمبر/أيلول، وخصوصا اليمينية منها كما يرى البروفسور حميد دباشي، حلّ محلّ الجامعات في إنتاج المعرفة التي تعمل تحت الخدمة الفورية للإمبراطورية.

AFP
أعمدة الدخان تتصاعد من موقع غارة إسرائيلية على قرية كفركلا جنوب لبنان، في 6 أغسطس 2024

أما البلاد التي تعاني آخر استعمار استيطاني في هذا العالم، فلا سبيل أمامها سوى تأسيس المزيد والمزيد من مراكز البحث ومراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية والحضارية والثقافية والإعلامية والتوثيقية، لمحاربة الصهيونية والعنصرية والاحتلال والإبادة لتشكيل معادل معرفي على الأقل لتلك القوة الغاشمة التي تريد أن تحرمها من تاريخها وثقافتها وإنسانيتها.

font change

مقالات ذات صلة